Monday, May 17, 2010

دائرة التمرد
دراسة فى ديوان "على طريقة بروتس" للشاعرة حنان شافعي
بقلم/ جمال العسكري
أنا زعيم بأن هذا الديوان يمثل مع غيره خطوة نحو إدراك الذات بوصفها آخر متأملا في مرحلة من أصفى مراحل الوعي الشعري حين تملك الذات الشاعرة قدرة جديرة بالانتباه إليها في جعل نفسها موضع تأمل يبلغ حدَّ تفكيك المشاعر تفكيكا يسمح بتأمل هذه المشاعر التي تنتظم معًا في سلك واحد حين نعيها ذاتا شاعرة تتحرك بيننا.
الأمر الذي يسمح بإجراء هذا الحوار الهامس بين الذات الشاعرة و الذات المتخيلة التي تتحرك بين سطور الديوان وكانت وسيلة ذلك في عدد من الأمور:_
الإدراك الواعي لفكرة التفكيك الداخلي الذي تمارسه الذات الشاعرة لنفسها بوصفها متأمَلا خاضعا للفحص والتأويل الدقيق يبدأ ذلك من عنوان الديوان نفسه على طريقة بروتس، هذا الذي يخايلنا من بعيد بدرجة من درجات الصراع بين الواجب والعاطفة المقدسة حين يقتضي هذا الصراع الانتصار للواجب بإزاء مشاعرنا وعواطفنا التي قد تتوهم قداستها لحظة الصراع في حين يصبح الانتصار للواجب إلى القداسة الكبرى التي تعلو على الطاقات المحدودة بل قد يستحيل أن يقدر عليها إلا نفر قليل يملكون من الطاقات ما يمكّنهم من التصدي لرغباتهم الموقوتة وصولا إلى الواجب الأوحد الأقدس ساعتئذ ولعل صفحة الإهداء فيما بعد تتيح هذا التصور

إلّى . .
وحدي
أتمرد
وأجّرب
وأيضًا أدفع الثمن


فهذا الخبر (شبه الجملة "إلىَّ") يؤكد لحظة خلاص من ضاغط يلح بأن ضرورة الإهداء تقتضي آخر توجّه له هذه الرسالة المتصالح عليها، لكن الواجب هنا يدفع إلى ضرورة مراعاة الصدق، ومن ثم يأتي التشديد في ضمير (إلىَّ) المتكلم تأكيدا بل نفيا لحضور هذا الآخر لأن المطلوب هو الصفاء مع النفس ومحاولة كشف الأقنعة التي تسد كل من حولها فتغميها وتعميها.
ولعل فراغ السطر بعد (إلّى) إلا من نقطتين مؤكد شكلي لهذا كله وانفراد (وحدي) بسطرها دليل على هذا التخصيص وتأكيد ونفي، تأكيد للتخصيص ونفي لمشاركة آخر في الإهداء تأتي بعد ذلك الأفعال
أتمرد
وأجرب
وأيضا أدفع الثمن
فإذا كان الإهداء للذات وحدها جاء سببا لهذا الصراع بين الواجب والمقدس، فهذه الشحنة المثلثة الأفعال تفسح المجال لتأول سبب هذا كله هو التمرد والرغبة في التجريب والبحث عن جديد على مستوى الأفكار والحياة بدرجاتها المختلفة، مع تسليم كامل بمتطلبات هذا كله وهو من نتصالح عليه في عالم الواقع (دفع الثمن).
فهذا الثمن هو جهاد واجب تبذله الذات الواعية رغبة منها في تحقيق الوجود الفاعل الحقيقي البعيد عن التقليد والجمود بفعل الانتظام في قطيع من مسلوبي الإرادات الذين يتقبلون الحياة على ما هي عليه بل متصورين قداسة ما هي عليه دائما.
الصراع بين الواجب والحياتي
مقدس مشاعر أفكار
من ذلك أيضا أن من فضاء التمرد والتجريب لا يعدو غير ممارسة حق واجب يبدأ بممارسة الحرية ويمر بجسر التمرد والتجريب وصولا إلى درجة الصفر أو الوعي الصفري الذي يعيد تكوين العالم من جديد
" ولماذا لم تعلمها قبل الرحيل
كيف يكون النسيان بداية الحرية
وأول دروسها
أو تلقنها وصايا التخريب المقدسة
كي تبدأ من الصفر بتاريخ يخلو من الهزائم"
إن التاريخ الذي تحرص عليه الذات الشاعرة هنا هو تاريخ العالم أو بمعنى أدق تاريخ وعي الذات بالعلم، فهذا الوعي الصفري سيعيد تكوين الأشياء من جديد سواء من داخل الذات نفسها أو من خارجها
"كانت بحاجة لأن تسمع منك
(أغنية تشيكوف الأخيرة)
علك تنجح في وقف سرطان الخوف
الذي يَدْهمُها
أو يعيد توزيع جغرافيا قلبها
بحيث تمنح الأنهار والأشجار
مساحة أكبر "
أما فى قصيدة مراوغة فإننا أمام سرد نثري أقرب إلى المنولوج الداخلي تسرد الذات الشاعرة وعيها الحقيقي القابع خلف استسلامها للآني المعتاد وهي تلك العلاقة الزوجية التي تبعث على التأمل، من حيث غرابتها التي ترسمها سطور القصيدة.
ففي عبثية مقصودة تقع الذات الشاعرة على عدد من الأفكار الرابضة في اللاوعي حين يوقظها تأمل عابر خلال لحظة من لحظات الحياة تلك اللحظة التي تقف فيها الزوجة مودعة زوجها حال خروجه في الصباح، فخلال هذه اللحظة يثور اللاوعي مخططا للتخلص من هذا الزوج سواء عبر :
إهداءه إلى إحدى أرامل الحرب
الكثيرات في بلادنا
أو رهنه لدى سيدة أموال عربية

واللافت هنا أن التداعي في رصد هذا التفكير اللاواعي ينداح بحيث يحمل في طيته مشهدا فرعيا هو الآخر دائرة لا واعية ترتبط بدائرة اللاوعي الأول على نحو من التدني الذي يؤكد حضور السرد بمتشابكاته المعهودة، ثم يأتي هذا السطر :
ثم أجتهد في طرد تلك الأفكار الشريرة
بابتسامة خبيثة
وأنا أهندم له حلته قبل خروجه للعمل
فما سبق محض أفكار والثورة المدعاة في صدر القصيدة محض خيال لا واعٍ ترسمه رغبة في ممارسة الذات الواعية لواجب يحقه عليها إحساسها بآلامها ورغبتها في ممارسة أدنى درجات التمرد بالثورة على هذا الواجب الضاغط لكن يبدو أن للآني/ اليومي/ أو العاطفي الغلبة في النهاية لهذا الآني العاطفي. وهو ما يغلق دائرة طرفاها دلاليا هو هذا الإهداء أولا:
إلى . .
وحدي
أتمرد
وأجرب
وأيضا أدفع الثمن

والطرف الآخر هو نهاية قصيدة الختام:
ولأتخلص تماما من الشعور بالذنب
أبدي اهتماما غير عادي برابطة عنقه
وأمنحه قبلة غجرية تنسيه
ما كان يقرأ بين عيني
في وعيها الأوحد عاشت الذات أفكارها، وحاولت التمرد بل الثورة وبالفعل ثارت بلا وعي فاعل على هذا الواجب لكنها في خضم ثورتها أفاقت إلى استحالة هذه الثورة (باعتبارها) أفكارا شريرة.
ومن ثم تجرعت ودفعت الثمن بأن استسلمت في خضوع تام للآني بإزاء الواجب، بل إنها سوف تعطي الأمل للآخر في القصيدة باستئناف هذا اليوم في دورة حياة جديدة سوف تكون الذات الشاعرة بلا شك أول من يدفع فيها الثمن أيضا.
وهو الثمن نفسه الذي يدفعه باسم قهار في قصيدة "رسالة إلى كذاب" حين يصدق تصفيق الجمهور لبريق عينيه ناسيا نزيفه الدائم بفعل طعنات المستبدين والمستعمرين وأنه على الرغم من محاولاته المستميتة للتمرد والتجريب لكنه يعود هو الآخر لنقطة الصفر:
تهرب إلى دم أبرد
إلى عواصم أكثر تحضرا
تغير أوراق هويتك بين عام وآخر
لكنك حتما لن تغير رائحتك
مثلما لن ينجح لسانك في
الخروج من مستعمرة اللغة
رغم كل ادعاءاتك
وفي قصيدة "مصارحة": يتضح ثمن التجريب، فبعدما تفضح الذات الشاعرة شريكها في السرد الشعري هنا فهو:
تقليدي لوجه أمها
ممل كدميتها
. . .
لم يستطع أن ينقذ قلبها من
تحت قدم الدنيا ذات
الكعب المدبب؟
أو إقناع عقلها بأن يكون
مهذبا أمام الله؟
وبعد أن تكشف له حدسها بمدى هذا الحب الواهي الذي يعيشه من طرف واحد:
ماذا بعد أن تشم رحيقي
سوف تفرك أعضائي
و
تُ
ر شْ
رِشُ
نِ
ى
على أعتاب امرأة جديدة

تبدأ في تمردها المعهود ورفضها
وثورتها بأن تطلب منه
أن عليه قبل الوصول إلى مفترق الطرق
أن يقرر إلى أي وجهة سيمضيان معَا
وفي لفتة دالة ترسم الذات الشاعرة صورة من صور النفاق التي يمارسها هذا الشريك حين يفتعل التوصية الدائمة لها بالحفاظ على نفسها وعدم الثقة في الآخرين، في تناقض يكذبه هو نفسه بفعله ورغبته التي تنتبه لها الذات الشاعرة خلال عمر هذه العلاقة.
هذا بالرغم من استعداد الذات الشاعرة إلى ممارسة التجريب في صدق مع النفس يبتعد عن منطق الفصام والنفاق الذي يمارسه هذا الآخر ولعل من أهم مقاطع القصيدة الدالة وربما على مستوى الديوان هذا المقطع من قصيدة "مصارحة":
كم أنت ناضج اليوم جدا
تحدثني كالحكماء
عن العمر الضائع
ومهارة السائق في التركيز
مع الأمبير والبنزين والمارة
وإشارات الطريق
برغم فشلك المعلن
في الاقتراب من عجلة القيادة

فهذا المتسامي _ بنفاق _ والحكيم بكذب مفضوح، يصر على لعب دور القائد نحو الأمان في حين هو يفشل عن قيادة أفكارها وإنقاذ قلبها وهو ما يؤكد الاستفهام التعجيزي في صدر القصيدة:
هل تستطيع إنقاذ قلبي
من تحت قدم الدنيا ذات
الكعب المدبب؟
أو إقناع قلبي بأن يكون مهذبا أما الله؟

وعلى الطريق نفسها تمضي الذات الشاعرة لتدفع ثمن جرأتها وتمردها وحدسها الكاشف للحياة من حولها فتتخلى عن دفء الحب الكاذب لأنه سيرحل عما قليل ولن يدوم على أعتاب امرأة جديدة ومن ثم تبدأ في عزف لحنها الأخير وتبتعد ماثلة لقدرها تدفع الثمن تقديرا لتمردها وتجريبها
.

No comments: