لم تفلح كل محاولاتي لتفادي المشهد، لا المشاغبات، ولا أفلام التليفزيون التافه منها والقيم، ولا تصفح كتاب يهمني موضوعه، حتى أكواب التفاح بالقرفة التي تساعدني على تخطي أزماتي خذلتني هذه المرة...
المشهد :(نهار خارجي) شاب ممشوق القوام يرتدي زيا متفقا عليه بين الشعبيين من أبناء بلدي ، يصنع مشنقته بيديه ثم يسلم جسده لها لينطرح معلقا بين سماء عاصمة مختالة ومياه نهر كان إلها ثم حكم عليه الزمان بذل أبدي .
صمت ثقيل يمتد من بعد إعداد المشنقة لساعة كاملة، وفي الخلفية ضجيج السيارات ومراكب البهجة المتواضعة وصخب كئوس فنادق النيل الأنيقة وهمس العاشقين المحرومين الذي كان عمرو واحدا منهم بالأمس، يختلس كلمة رقيقة أو نظرة حنو قد تنقذ روحه من تلوثها بشعور العجز وقلة الحيلة .
ترى أي مزاج سيطر على هذا الشاب وهو يكتب تفاصيل مشهد رحيله الموجع؟ هل كان ثائرا أم هادئا ؟ محبطا إلي درجة الصراخ أم متجبر إلي درجة الإصرار على الرحيل عبر مشهد سادي يتركنا بعده وقد خيم على قلوبنا حزن مطبق، ومرارة تلوث لحظاتنا كلما هممنا بممارسة حياتنا . و أي مرارة تلك التي ندفعها ثمنا لتعبد مجتمع متعجرف في محراب طقوس اجتماعية ومظاهر تافهة. أي عدل هذا الذي ينتظره الآباء من أبناءهم ومن الحياة وهم يسلمون عقولهم لأفكار بالية وأداء اجتماعي استعراضي لا نجني منه –نحن الأبناء- سوى مزيد من المشقة وفقدان الثقة بالنفس كلما عجزنا عن تلبية مطالبهم وتصوراتهم–ضيقة الأفق- عنا وعن المستقبل .
ماذا لو أن أهل خطيبة عمرو قد تعاملوا معه بقدر طاقته المادية والاجتماعية طالما أنه يحبها إلى هذه الدرجة ويطمح إلى مشاركتها الحياة ؟ أو ليكن السؤال أكثر نضجا-لماذا لا تستفيق الأسر المصرية من أوهامها الاجتماعية عن الزواج ومتطلباته؟لماذا لا يحاولون-لوجه الله الذي يتحدثون عنه ليل نهار-إدراك متغيرات الحياة المرعبة والتحديات التي تواجه الشباب ،والشباب المصري تحديدا ،في بداية حياتهم؟
ولعل المدهش أن المشاريع الزوجية علي الطريقة المصرية تمر في نفق من الأوهام يبدأ مع الشقة والأثاث والمواصفات التي تمتلكها بنت فلان وعلان والتي لا يجوز "شرعا" أن لا تمتلك ابنتهم مثلها، وصولا إلى ما يحدث بعد إتمام الزيجة من تدخلات ومحاولة لتخطيط الحياة نيابة عنا ثم رغبة الأهالي الملحة في وصول الأحفاد، بالطبع كي يرضون غرورهم ويشعرون بنجاح سطحي زائف لأنهم لا يعرفون –ولا يحاولون- معرفة ما إذا كان هاذين الزوجين سعيدين بالفعل أم لا !!!!!
وبخلاف المجتمع المتلذذ بأوهامه ومشكلاته المتفاقمة، أتوجه بسؤال ساذج إلى أولي الأمر في مصر..بالله عليكم ،كم كان سيتكلف زواج عمرو و إنقاذ روحه من اليأس وبالتالي حياته من هذه الموته البشعة؟؟ الإجابة .. أنه مبلغ شديد البساطة أوشديد التفاهة بلغة أصحاب الأموال. مبلغ لا يكفي بأي حال من الأحوال لإعداد مأدبة على شرف محافظ أو مسؤل بأحد الأقاليم. ولنتخيل كم من الشباب المصري في مثل ظروف عمرو ويحتاج فقط لمبلغ مماثل في مقابل المبالغ المهدرة من قبل مؤسسات الدولة والتي يصعب على البسطاء مثلي تصورها.
غصة في حلقي صنعتها صورتك وأنت معلق هكذا يا عمرو، أي قسوة تلك التي مورست عليك ووصلت بك إلى هذه القرار ؟؟!و كيف لقلب يعشق وروح تتوق إلى حبيبها أن يقررا الانسحاب من الحياة بهذه المأساوية ؟
أعتقد أنك عاشق للمسرح التراجيدي مثلي تماما وأنك تمنيت أن تصبح هاملت أو ماكبث الألفية الثالثة ،و اسمح لي أن أحييك علي ذكائك، فاللحظة مناسبة جدا لصنع مآسي كبرى . وأنت "البطل" شاب يافع تعتصر لفراقه قلوب الأمهات والعذارى، أما المكان فهو اختيار عبقري بلا أدني شك ، مسرح معد بديكور يليق بك كبطل مأساوي،كوبري ملكي رشيق تحرسه الأسود من كل جانب،وهو شاهد قديم على تاريخ العشاق الذين يأتونه ليلة الزفاف كي يبارك توحدهم،وعلى تاريخ الساسة الذين يعلقون عليه أعلامهم كي يؤكد شرعيتها.في مقدمته منبع كلاسيكي لفنون الرسم والموسيقي والتمثيل (عليها أن تصطبغ بالأسود كرد فعل رومانتيكي يليق ببطل مثلك) ،وفي المؤخرة ميدان عريق تتسابق فيه أحلام الكبار والصغار كل صباح.
وأخيرا وصيتك إلى الحبيبة في زمن مغاير تماما لزمن الوصايا، هي العنصر المكمل لظهورك كبطل تراجيدي يا صديقي. وبغض النظر عن أن التاريخ مؤهل لاستيعاب مأساتك أم لا ، فإن المشهد الذي صنعته بمنتهى الهدوء سيظل يطارد مخيلتنا جميعا حتى هؤلاء الذين تعودت مخيلتهم علي مشاهد الاحتفال وكراسي السلطة .
hanan@hananshafey.com
Wednesday, June 9, 2010
Saturday, June 5, 2010
الأنامل الذهبية تنجب تسع عائلات للحرف
حنان شافعي
تحت عنوان "الأنامل الذهبية " صدر مؤخرا عن دار نهضة مصر مجلدا كبيرا يقع في 131 صفحة من الورق الفاخر للفنان التشكيلي والناقد المصري عز الدين نجيب صاحب موسوعة الفنون التشكيلية في مصر التي صدرت عن الدار نفسها خلال العام المنصرم. يقدم الكتاب في لمحات سريعة رؤية شاملة للحرف الفنية المصرية بمختلف أنواعها وتصنيف خاماتها وذلك عبر تقسيم حميم استعرضه المؤلف في تفصيل مبسط ومدعم في الوقت نفسه بالصور والنماذج الدالة علي فنون كل عائلة من العائلات الحرفية الفنية التي بلغت تسع عائلات ذات تقسيمات داخلية ..سنراها فيما يلي :
1-عائلة الحرف النسجية
للنسيج علاقة أصيلة بالمصري القديم فهو الذي عني كثيرا بملبسه وأناقته التي لعب نسيج الكتان فيها دورا كبيرا ثم وصولا إلي أرقي أصناف الحرير الذي بهر العالم والأدلة علي ذلك لا حصر لها سواء من خلال بقايا الأقمشة التي تملأ المتاحف العالمية وقد عثر عليها في المقابر القديمة والمناطق الأثرية ، أو عبر المناظر المجسمة التي تعود إلي أسر فرعونية مختلفة وهي تقدم نسوة يشتغلن في صناعة الغزل والنسيج ، كما عثر علي بذور الكتان التي كانت تصنع الأقمشة من خيوطه واسمه بالهيروغليفية "تيسوت" وتعني الملكي ، أيضا عرف المصري القديم الأصباغ وكيفية استخراجها من الزهور والنباتات المختلفة . وقد استمر التفوق المصري في فنون النسيج في العصور التالية للحقب الفرعونية مثل العصر البطلمي والروماني والقبطي والإسلامي وظلت هذه الصناعة تذدهر تحت إشراف الدولة ووصايتها مما أدي إلي انتشارها وتنوع المنتج المحلي منها حتي غدا ينافس بقوة في السوق العالمية سواء في المنسوجات الكتانية والصوفية أو الحريرية وأصبح هناك الكثير من المعامل في مدن مثل أخميم وأنتينوي فضلا عن المركز الرئيسي بالإسكندرية . وتضم عائلة الحرف النسجية فروعا مختلفة تتوزع بين "نسيج السجاد والكليم" و "نسيج الحرير" و "الحصير المرسم" الذي لعب دورا فنيا راقيا إضافة إلي استخدامه الأولي في المنازل وغيرها .
2- عائلة الحرف الخشبية
أبدعت أنامل الحرفي المصري علي مر العصور آيات من المشغولات الخشبية الدقيقة التي ما تزال حية إلي اليوم في المساجد والأسبلة والوكالات والبيوت والسرايات وقد استطاعت أن تتواصل داخل النسيج الاجتماعي للمصريين عبر قطع الأثاث والنوافذ والأبواب والشرفات والأسقف بل حتي أدوات الحياة اليومية . وقد جاء ذلك نتيجة تداخل عدة فنون تتعلق بالخشب والنجارة مثل "فن التعشيق بالحشوات الخشبية" و "فن الخرط الخشبي".ولعل أهم ما أبدعه الفنان المصري باستخدام الخامة الخشبية هو آلة العود الذي يأتي في مقدمة الآلات الموسيقية العربية بلا منازع وهو يعود بالمناسبة إلي العصور الفرعونية ويتم صناعته عبر مراحل متتالية و شديدة الدقة في ذات الوقت. هناك أيضا فن تطعيم الأخشاب بالأصداف والعظام أو بالعاج فضلا عن وجود فنون مصرية أخري تتعلق بالتشكيلات الخشبية من الجذوع والأغصان .
3- عائلة الحرف المعدنية
لا تقل عائلة الحرف المعدنية ثراءا عن العائلات السابقة وهي أيضا فنون شديدة الصلة بالشخصية المصرية تراثها وثقافتها .نجد مثلا أشكال المصاغ الشعبي المتمثل في حلي النساء والرجال والذي يرمز بقوة إلي جوهر العقيدة المصرية من ناحية ومن ناحية أخري هو زينة تضيف جمالا خاصا ثم هو كذلك وسيلة للاحتفاظ بالمال المتمثل في قيمة المعدن في مواجهة الزمن وتقلباته. وضمن عائلة الحرف المعدنية توجد المشغولات النحاسية التي كانت تمثل في عصر الفاطميين عماد الصناعة ومركزها النشط وبالطبع ليس أبلغ مثالا علي روعة وصمود المشغولات النحاسية المصرية من "فانوس رمضان" ذلك الطقس الاجتماعي الذي لا تكتمل الفرحة بقدوم شهر رمضان من دونه رغم كل مغريات العصر الحديث وتطور صناعة الترفيه .
يقدم الكتاب أيضا لمحة عن "فن التكفيت" وهو حرفية تطعيم أسطح النحاس بالذهب والفضة ويعد من الفنون الراقية المتوارثة منذ قرون ممتدة وحتي اليوم والمدهش أنه يعود أيضا إلي الفن الفرعوني القديم واستطاع الخلود عبر العصور التالية حتي ازدهاره في العقود الإسلامية مثله مثل فن المخرمات النحاسية .
4- عائلة الحرف الحجرية
مصر هي أول بلد تقوم حضارته علي تشكيل الأحجار وبالتالي تتلخص معجزتها الحضارية في النحت الذي يحتار العلماء في فك رموزه وشفراته حتي الآن .لا تخلو منطقة أثرية مصرية أيا كان عصرها من زخارف نحت علي الحجر وتشكيلات معمارية تتميز بعبقرية خاصة وتفرد منقطع النظير. هناك أيضا زخارف الخط العربي في العمارة والزخارف الرخامية التي أطلق عليها مؤلف الكتاب تعبيرا ناعما هو "دندنة الرخام" التي تألقت بقوة في العصور الإسلامية فكانت تزين المنازل والمساجد وقصور الحكام وقد استمر ذلك في العصر العثماني علي المستويين الشعبي والسلطوي .
5- عائلة الحرف الطرزية
يأتي علي رأس هذه العائلة بالطبع زي الانسان الذي يعد حماية وستر له من ناحية ومن ناحية أخري مصدرا للتزين والتجمل بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها المرء بدليل ما عثر عليه في المناطق الأثرية الفرعونية من أشكال مختلفة للطرز والملابس التي تلائم مختلف الشخصيات بدءا من الملك وحتي الفلاح . وتختلف أشكال الطرز الخاصة بالزي الرجالي أو النسائي في التراث المصري سواء بفعل العصر الذي ظهرت فيه أو بفضل العامل الجغرافي والعادات والتقاليد الخاصة بكل عصر. بعيدا عن الملابس هناك فن التطريز المجسم "الصيرمة" الذي ارتبط منذ نشأته بزخرفة الخيام التي عرفت قبل ظهور الاسلام في مناطق مختلفة من العالم خاصة بلاد شرق آسية ، ومع حركة التجارة وتبادل الثقافات انتقل هذا الفن إلي مصر والعراق أما المصري فقد استخدم في ذلك قماش الحرير والكتان في هذا الفن مع شيوع الزخارف الاسلامية .
6-عائلة الحرف الفخارية
ربما تكون أثري العائلات الحرفية وأكثرها قربا للإنسان الذي يصنع الفخار من الصلصال الذي هو مادة تكوينه الأولي وهي كذلك أقدم حرفة مارسها الانسان بعد الصيد لأنها كانت شرط بقاءه علي الأرض حيث صنع منها وسائط حياته اليومية بدءا من أواني الطعام وحتي الآلهة التي عبدها يوما ما . ولم يقتصر انتاج الفخار علي المنقولات الصغيرة والمتوسطة التي تستخدم يوميا بل امتد إلي المنشآت المعمارية كذلك كما تتميز كل منطقة في مصر بصناعة فخارية ذات طابع خاص وذلك تبعا لاختلاف الطينة المستخدمة سواء حمراء أو سوداء أو طفلة جيرية وغيرها .
7-عائلة الحرف الزجاجية
لعلها الأرق ضمن عائلات الحرف علي الإطلاق وليس غريبا أن يكون المصري القديم هو أول من شكل الزجاج بالنار في عهد الأسرة الثامنة عشرة وظلت صناعة الزجاج وزخارفه مستمره علي مختلف العصور حتي أنه كان لمدينة الاسكندرية شهرة عالمية في هذا المجال خلال العصر اليوناني . أما في القاهرة فكانت مدينة الفسطاط مركز هذه الصناعة حتي انها انتزعت الريادة من المدينة الأولي ، وكالعادة مع العصور الاسلامية ظلت الصناعة كما هي لكنها اصطبغت بتراث العقيدة وملامحها..يظهر ذلك بقوة في نوافذ الزجاج المعشق بالجص أو "مصافي النور" كما أطلق عليها وهو فن غلبت عليه اللمسة الإيمانية أكثر من أي شئ آخر .
8-عائلة الحرف النخيلية
حيث صناعة الأثاث من جريد النخيل الذي ارتبط بخصوبة التربة المصرية ووديانها العامرة بالخير.وتنتشر هذه الصناعة في المحافظات التي يكثر فيها النخيل حيث تتم صناعة المناضد والكراسي والأقفاص وأيضا السلال "رفيقة الانسان من الحياة إلي الموت" وهي ليست مجرد منتج عادي بل ترتبط مثلها مثل باقي الفنون الحرفية بالبيئة ومكونها الثقافي والعقائدي وكذلك العادات والتقاليد .
9-عائلة الحرف الجلدية
الفئة الأخيرة من عائلات الفنون الحرفية حيث صناعة الجلود التي بدأت ربما مع بداية حياة الانسان علي الأرض وقبل معرفة النسيج بالخيوط فهو الذي ستر جسده من البرد والصقيع.تدريجيا لم تنقرض صناعة الجلود بل أصبحت وسيطا للتشكيلات الجمالية سواء في التكوينات الزخرفية أو المنتجات المستخدمة في الحياة ولا تخلو من لمسات جمالية أيضا .
Friday, June 4, 2010
النص والمعرفي
في ديوان على طريقة بروتس، للشاعرة حنان شافعي
د. محمود الضبع- 6ديسمبر 2009م
ماذا على الشعر أن يقول ؟
كان الاهتمام بالموضوع أحد المرتكزات الفارقة في الشعرية الكلاسيكية ، ولذا كان يناسبها من المناهج النقدية ما يهتم منها بالتفسير والشرح والتوضيح ، والوقوف عند ماذا يريد الشاعر أن يقول ، وماذا يعني ، وهو ما نلمسه لدى الشعراء أنفسهم " أنام ملء جفوني – المتنبي " ، وحكومة أم جندب النقدية بين امرؤ القيس وعلقمة الفحل ، حيث حكمت لعلقمة لأنه استوفى جوانب موضوعه ، والخلاف بين النابغة والخنساء في مجلس حسان بن ثابت بسوق عكاظ ، وغيره من الشواهد التي تؤكد على أهمية الموضوع دون النظر للأبنية وآلياتها ، حيث لم يكن هناك سوى شكل وحيد للبناء على الجميع أن يلزمه "البناء الفني للقصيدة وعمود الشعر كما تم تحديده فيما بعد " .
هكذا كانت عليه الحال في الشعرية العربية القديمة، واستمر الأمر حتى مع عصور النهضة ومرحلة ما بعد شوقي التي لم يزل لها صدى في الذائقة العربية حتى الآن.
إلا أنه ومع سيادة حركة التفعيلة في الشعر العربي ، فقد انفتح الباب على مصراعيه لانتهاك قدسية الموضوع (العقاد على سبيل المثال والتأسيس لحركة تطور فعلية في الشعر فأصبح كل ما تقع عليه العين ويقبل التحليل موضوعا للشعر ) ، وهو ما استثمرته قصيدة النثر في إحداث قطيعتها مع الشعرية العربية القديمة والتأسيس لمنجزها الذي لم يزل بعد في سياق التشكل ، ويوم أن يكتمل منجزه سيكون البحث عن شكل شعري رابع ليس معلوما حتى الآن ، فتلك هي طبيعة الأدب والوعي الثقافي عموما .
ويأتي ديوان "على طريقة بروتس " للشاعرة حنان شافعي واحدا من النماذج المشتبكة مع هذا الوعي ، والمؤسسة لتجربتها الخاصة غير معنية بمفهوم الجيل وتشكل ملامحه ، وتلك إحدى السمات المهمة في النظر إلى مشروع قصيدة النثر عموما ، حيث يمكن القول باختصار إن كتاب قصيدة النثر انتقلوا من "سطوة الجيل إلى البحث عن هوية " بما في ذلك من اختلاف وجهات النظر وآليات تداول القصيدة ، وهو ما يمكن التماسه عبر عناصر التشكيل التي يطرحها الديوان ، ومنها : الذات والموضوع – التمرد والتفرد – المعرفي والشعري – الوعي والقصيدة .
الذات والموضوع :
تماهت العلاقة تماما بين الذات والموضوع مع شعرية الحداثة ، بحيث غدا الخطاب الشعري يتحرك بمنطق الكشف عن الذات وتمثيلاتها ، عن طريق السرد تارة ، وعن طريق تفكيك النص تارة أخرى .
ومنذ البداية تعلن حنان شافعي عن تحويل مركزية النص الشعري حول ذاتها :
إِلَيَّ
وَحْدِي
أَتَمَرَدُ
وَأُجَرِّبُ
وَأَيْضًا أَدْفَعُ الثَّمَنَ
وتأتي القصيدة الأولى أيضا كاشفة عن الاهتمام بالذات بعنوان " في الاتجاه المعاكس " ، تقول:
أَشْيَاءٌ كَثِيْرَةٌ لا أَجِدُ مُبَرِّرًا لِحُدُوثِهَا
وشيئا فشيئا تتكشف الذات عن حضور الذات الأنثى التي تعالج عبر النصوص علاقاتها بالعالم من حولها :
علاقتها بأبويها في المقطع الأول .
وعلاقتها بنفسها وبمن تحب في المقطع الثاني .
ثم علاقتها بالآخرين والرغبة في التبرؤ منهم في المقطع الثالث .
التمرد والتفرد :
ولا ينفصل التمرد عن الذات والموضوع ، فموضوع معظم القصائد هو التمرد ، انطلاقا من كون شعرية الحداثة تعتمد على التجريب ، والتجريب هو نوع من أنواع التمرد ، على الأساليب اللغوية وطرائق تراكبها ، على أبنية الشعر ، على الشعرى واللاشعري. وعبر قصائد الديوان تأتي الملامح الدالة على التمرد في تجربة حنان شافعي الشعرية : في الإهداء، حيث يرد التمرد صريحا وواضحا ، ومقبول النتائج (أتمرد وأجرب وأيضا أدفع الثمن).
التمرد على الأبوين وعلى شريك الروح، وعلى من تعرفهم، وعلى وعيها (أقاوم الرغبة في التبرؤ من كل الذين أعرفهم )
التمرد على المجتمع الطبقي والأوجه البراقة للحضارة ، ومنه : التمرد على الأوبرا بوصفها النموذج الأكثر تحضرا في العالم (أتصنع الاستمتاع بمهارة عالية جدا ) فالتصنع يعنى قناعة الوعي بغير ما هو مفروض ، والتمرد على رابطات العنق الأنيقة وتناول طبق من الكشري في مطعم صاخب .. كل هذا دافعه هو التمرد ، تقول :
كُوبْرِي قَصْرِ النِّيلِ
مُمْتَنٌّ جِدًّا لاسْتِقْبَالِي،
وَالجَوُّ مُهَيَّأٌ تَمَامًا
لِمُمَارَسَةِ التَّمَرُّدْ.. ص18
ثم يأتي التمرد الماورائي بمفهوم "ألبير كامي"1، وهو ممارسة طقوس دينية لا تنتمي لمجتمعاتنا وأفكارنا وعقائدنا :
ثمة أشياء أجربها للمرة الأولى
مثلا قراءة تعاويذ بوذا
البحث في كتب تفسير الأحلام .ص32
وكذلك التمرد ضد العلاقات الإنسانية الاجتماعية :
تقليدي أنت كوجه أمي
ممل كدميتي ص59
إضافة إلى الشخصيات أو الذوات الأخرى التي مرت عبر الديوان تحمل معها تمردها ، بين من يعلق جيفارا على صدره ، ومن تتحدى الفقر ، وهكذا .
المعرفي والشعري:
النص الشعري هو مجمل روافد ثقافية استطاعت أن تختزل الفلسفة والاجتماع والنفس البشرية والسياسة والمعرفة في نص يسمح بتأويلات عدة ، وتلك إحدى مكونات الشعرية وشروطها (تعدد التأويل) ، أما على مستوى التلقي فإن الشعر لايتواصل معه ولا يستقبله في الأساس إلا من يمتلك وعيا ومعرفة وثقافة ، وقبل ذلك جميعه يمتلك إنسانيته ، وقدراته العقلية التخيلية ، والخيال أحد أهم اشتراطات المثقف المعاصر .
وقد تعددت أشكال الخطاب الثقافي في الشعر العربي الحديث، فتنوعت بين السياسي والديني والفكري والفلسفي والتاريخي ، واتخذ ذلك طريقين :
إما بالتشكل مع الخطاب المعاصر وبخاصة مع السياسي والفلسفي والفكري.
أو بإعادة إنتاج التراثي وبخاصة مع الديني والتاريخي.
ويمكن عبر ديوان "على طريقة بروتس " لحنان شافعي أن نلتمس بعض هذه الروافد المعرفية التي تتخذ مسارها عبر النصوص ، ومنها :
التناصات المتعددة مع التاريخي والفكري والديني ، مثل :
كونفوشيوس الذي علمه الصبر
هو نفسه الذي أوصاني
ألقنه الجنون . ص 19
أو أن أعالجه من فوبيا عبور الطريق
مقابل أن يكف عن ترجمتي إلى أفكار ص20
صوفية الطاوية
شبق الأربعينات
السماء التي تتوسل رضا البشر
محطات مترو بكين الأكثر انضباطا ص20.
من فضلك
احجب عني عينيك السرياليتين إلى الأبد ص 21.
عنوان "الموت على طريقة بروتس " ص 29.
ثمة أشياء أجربها للمرة الأولى
مثلا قراءة تعاويذ "بوذا" ص32.
الآن أشعر بحاجتي إلى آلاف الأقراص المنومة
وقديس يعدني بالغفران. ص 33.
شكسبير .. لماذا يصر على سرقة أفكاري ؟
بينما تصر جدتي أنني عانس المستقبل. ص40
لكن خوفي على "الفردوس المفقود " مازال يملكني
وكذلك رأس مكبث تطاردني ص43.
هذه المتناصات وغيرها كثير تستدعي بالضرورة وعيا مصاحبا لوعي النص ، وهو وعي لا يأتي بمعرفيته فقط ، وإنما يحمل أيضا معه جمالياته التي ترسخت فينا عبر الزمان ، فالشاعرة عندما تعلن مطاردة رأس مكبث لها ، فهي تستحضر التراجيديا بمفهومها العام ، وتستحضر عالم الرعد والبرق والساحرات والنبوءة وتولى الحكم وفقده .. فكيف ستكون عليه تلك الرأس المشحونة بهذه المآسي عندما تحل في رأس الشاعرة .
التناص مع شكسبير في سرقة الأفكار ، يحيلنا إلى مرحلة نعايشها جميعا ، حيث نرهق أنفسنا في التوصل إلى فكرة ، ثم نكتشف بكل بساطة أنها تم إنجازها على يد كاتب كبير ، وهذا أحد أسرار الكتاب الكبار ، أنهم يعالجون أفكارا كثيرة وعلى مستويات عديدة تكاد تختزل العالم .
أما التناص مع "قديس يعدني بالغفران " فيستدعي فكرة التطهير المسيحية والاعتراف بالذنب في مقابل المحو ، مع ما في المسيحية من روحانية كثيفة وتساهل في الأمر .وفي التناص مع عنوان "الموت على طريقة بروتس " حيث خان بروتس صديقه الحميم يوليوس قيصر ، الذي كان على وشك حكم روما ، واتفق مجلس الشيوخ ضده ، وتوالت الطعنات عليه ، وكان من بينها طعنة بروتس ، وهنا قال يوليوس قولته الشهيرة ، والتي بررها بروتس بأنه يحب يوليوس ولكنه يحب روما أكثر .
فأي مستوى من هذه المستويات تستحضره الشاعرة في نصها ، هل ترى ذاتها في يوليوس قيصر وكل من حولها خانوها ، أم ترى ذاتها في بروتس الذي يمتلك فلسفة كما صورها شكسبير ، أم ترى أن التاريخ يعاد وما فعله بروتس صار طريقة للحياة الآن ؟
هنا ينفتح باب التأويلات ، ويستمر في طريق تشكيل الجمالي والواعي أيضا .
الوعي والقصيدة :
ليست كل القصائد المنجزة في سياق قصيدة النثر تحمل وعيا.
ودائما هناك صراع بين الجميل وبين الكشف عن الوعي ، وتلك إحدى تحديات النص الشعري. لحظة الوعي في القصيدة قد ترد عبر جملة ، أو كلمة ، ولكنها هي التي تبقى حتى بعد الانتهاء من القصيدة .
ينتمي ديوان حنان شافعي إلى الاتجاه الذي يحتفي بالذهني على حساب البلاغي ، وهو اتجاه عالمي له مريدوه ومؤيدوه ، وله رافضوه من باب الصعوبة التي يواجهها التلقي ،وبخاصة إذا كان النص مسموعا ، ولكن على أية حال فإن شعرية قصيدة النثر بكاملها تكتسب التواصل معها عبر قراءتها وليس عبر الاستماع إليها ، لأسباب عديدة منها اعتياد الأذن على الإيقاع العروضي ، وعدم اعتيادها على الإيقاع الداخلي الذي تبنته قصيدة النثر ، ومنها الفجوات العديدة في مساحات التلقي التي تعتمد عليها القصيدة قياسا إلى الشعرية العمودية أو التفعيلية مثلا .
ونتيجة لاهتمام حنان شافعي بالذهني، فإن النص يبدو صلبا جافا بعض الشيء على مستوى التلقي ، وبخاصة إذا ما تضافر مع ذلك معطيات المعرفي كما تم رصده سابقا .
الوعي دوما حاضر في صياغة التركيب وبناء الصورة :
هي تعلم جيدا
فشل كل كتب الفلسفة
في الإجابة على تساؤلاته
وفشله في الوقوف على المسرح طويلا . ص 13.
تلك هي إحدى مستويات الوعي بالآخر ، وهو مستوى أعقد من الوعي بأنفسنا ، فنحن قد نصدر هذا الحكم على أنفسنا ، ويكون صادقا ، أما أن نصدره على آخر .. وماذا لو كان ذلك عاما .
ومنه قولها :
أقاوم رغبتي في التبرؤ
من كل الذين أعرفهم . ص13
فمقاومة الرغبة وعي فارق ، والتمكن من ذلك انتصار . إذ كل شيء يبدأ في الوعي أولا ، ولا تغيير في مسيرة الإنسان والحياة ما لم يتغير الوعي سابقا .
تقول في قصيدة بعنوان "أن أمحوك من ذاكرتي " ص65:
كالعادة
هاربة من اللامعنى
أجتهد في تجاهل صوت داخلي يلح علي ضرورة انسحابي
أفشل
وأعود لأفشل ثم أعود
وعلى الرغم من أن النهاية تتبنى المفارقة في الارتباط بإشارة المرور ، إلا أن الوعي حاضر في المحاولات التي تقوم بها ، وفي الإصرار على امتلاك القدرة على الانسحاب . وفي هذا السياق تأتي قصائد عدة ، منها قصيدة مراوغة الأخيرة على سبيل المثال ، وهي قصيدة تحتمل العديد من التأويلات على مستويات عدة ، فقد يتم تلقيها في سياق الوعي الذي يحضر ثائرا على فتور العلاقات الزوجية ، وقد يتم تلقيها في سياق الوعي بالوضع العام لحياتنا وعلاقتنا الاجتماعية والسياسية .. إلى ما يمكن أن يحتمله النص من تأويلات تبعا لقدرة المتلقى وتوجهاته .
ختام :
ديوان "على طريقة بروتس " هو الديوان الأول للشاعرة حنان شافعي ، والتجربة الأولى تخرج بطزاجتها وجمالها ، ولكنها تظل تجربة أولى ، فكما لو كان الحكم بالشاعرية يبقى معها مؤجلا حتى تتضح لدينا معالم التجربة عبر أكثر من ديوان ، ثم عبر المشروع الشعري إجمالا .
غير أن ذلك لا ينفي أن نتعامل مع الديوان في إطار الأعمال الأخرى المجايلة له ، والأصوات الشعرية الأخرى داخل إطار قصيدة النثر من جهة ، وأن نتعامل مع الديوان عبر البناء الفني والآليات التي اعتمدها ، ومنها على سبيل المثال بنية المفارقة بأنواعها : المفارقة اللغوية ، ومفارقة الموقف ، ومفارقة الحالة ... إلخ ، حيث كانت هناك إمكانات ومساحات مضيئة عبر القصائد والنصوص لكنها لم تستثمر على هذا النحو لصالح بناء النص .
فمثلا نص مثل : أن أمحوك من ذاكرتي ص 65 كان يمكن استثمار بنية المفارقة فيه ، وهي متحققة ، لكنها في الإمكان تعميقها على نحو أكبر ، فلا ينتهي النص بمجرد ذكر إشارة المرور بجانب بائع الجرائد ، حيث انتقل هنا النص إلى محاولة كتابة اليومي والمعيش ، فخفتت البنية الفنية . أيضا بناء الصورة والفجوات التي يجب أن يصنعها النص ليخرج من إطار السردية والنثر الفني إلى إطار شعرية قصيدة النثر ، ثمة صور وعلاقات لغوية :
ما زال يصر على استدراجي للركض في شوارع عقله اللانهائية .
وأهرامات ثقافتي تتخلى عن تماسكها . ص20
غير أن الديوان في سياق تجربته يضم إلى منجز قصيدة النثر في مصر، ويعبر عن وجهة نظر كاتبته في الحياة واللغة والشعر ، وهو لها في النهاية