"توم جن" شاعر التمرد والبوهيمية
حنان شافعي
يقول تشارلز سيميك "كل الشعراء –والجيدين منهم علي وجه الخصوص- يميلون إلي الخروج عن سمات عصرهم الأدبية " لعل العبارة الأهم هنا هي "الجيدين منهم علي وجه الخصوص" لأن المعروف أو المتفق عليه هو أننا نتعامل مع الشعراء باعتبارهم استثناءات ليس لأنهم يكتبون جيدا ولكن لأنهم يكتبون بالأساس أو لأنهم يتحملون مسؤولية تطويع اللغة .من هذا المنطلق يمكننا الوقوف علي ما يسمي "بذاتية الكاتب أو الشاعر" التي نجدهم يشتركون فيها جميعا بغض النظر عن مستوي كل منهم الفني ، فهم دائما يشكلون مجتمع الخوارج الذي يرمز إلي الوحدة والتمرد ويمكننا اكتشاف ذلك بسهولة عبر سير الرموز الثقافية من المبدعين والشعراء علي وجه الخصوص حيث استطاعوا خلق كياناتهم الثقافية بعيدا عن أي مسمي أو جماعة أو مدرسة أو نادي أو حتي تصنيف ...كل ما سبق نستطيع أن نطبقه بقوة علي الشاعر البريطاني توم جن الذي تحتفي المكتبة العالمية بصدور مجموعة مختارة من أشعاره قام بتحريرها أوجست كلينزالر .
توم جن الذي توفي عام 2004 ، بدأ مشواره الأدبي كشاعر ثوري صغير في بريطانيا حيث نشر أول دواوينه "أبجديات المقاومة" وهو في الخامسة والعشرين من عمره ثم ما لبث وضمه النقاد إلي الشعراء الذين يوصفون بقوة الأسلوب وصراحته مثل فيليب لاركن ودونالد دافي. عام 1954 ترك توم إنجلترا متجها إلي سان فرانسيسكو حيث أقام والتحق بالدراسة في ستانفورد وقد بهرته المدينة بمناخها البوهيمي المنفتح والمتناقض بالطبع مع ما تعود عليه في كمبردج الهادئة . يقول إدموند وايت :"جن هو آخر الناجين من هذه الحياة الساقطة ..بالنهار تجده مفكرا جادا ، وبالليل غارقا في الجنس والمخدرات".و علي المستوي الفني ظهر إهتمام توم بالشعر الحر منذ بداياته حيث أدار وجهه عن الأوزان وموسيقي الشعر بشكل عام حتي أنه كثيرا ما تبرأ من قصائده الأولي التي اهتم فيها بظهور الموسيقي . من ناحية أخري يعد توم جن من القليلين الذين اعترفوا وأعلنوا إعجابهم بالشكل الشعري الذي قدمه كل من وينترز و ألين جينسبرج ..هذا فيما يتعلق بخلفية المسيرة الشعرية لجن أما المسيرة العملية فقد وردت فيها روايات مختلفة ربما ساهم بعضها في تشويه تاريخه إلا أن هذا بأي حال من الأحوال يعد طبيعيا لأن الشعراء مثلهم كمثل أناس كثيرين نادرا ما يستسلمون ببساطة إلي نسق الحياة التي يرسمها لهم المجتمع فهم يفضلون أن يعيشوا حياتهم كما تتراءى لهم وكما يأخذهم تمردهم واختلافهم عن المجموع . بالنسبة إلي جن لم يتوقف الأمر عند انتقاله من انجلترا إلي أمريكا وكل ما صاحب ذلك من تغيير في أسلوب الحياة ومفرداتها بل انفتح شاعرنا علي المناخ الذي عرفت به مدينة سان فرانسيسكو تحديدا في ستينيات هذا القرن الماضي فأصبح يتعاطي المخدرات ويجهر بميوله الجنسية الشاذة إلا أنه في الوقت نفسه وبالتوازي مع ذلك بدأ يفضح تلك المدينة في كتاباته حيث اقترب من مخابئها وسوءاتها وشخوصها المهمشين ..كل ذلك عبر فنيات الشعر الحر الذي أصبح أحد أشهر شعراءه خلال 10 سنوات متواصلة .
يعزي النقاد دائما التغير في الأسلوب الفني لأي شاعر بالتغييرات التي تشهدها حياته بصفة عامة وهذا ربما يقف وراء شغف القراء بمعرفة السير الشخصية للشعراء ثم بعد ذلك محاولة تأويلها لتفسير الحالات المختلفة التي تنتاب المبدع أو الشاعر. في تجربة توم جن أوعز النقاد البريطانيون الذين هاجموا التحول الفني الذي لوحظ علي تجربة جن إلي انتقاله للحياة في الولايات الأمريكية وبالمثل ربط النقاد الأمريكيون فيما بعد بين أسلوب حياته الذي تميز بالمغامرة وبين "الهدوء النسبي " الملاحظ علي شعره !!. وتعد تلك سمة النقاد الدائمة حتي الآن حيث لا يزال الكثيرون يربطون مثلا بين الميول الجنسية لجن وبعض ملامح كتابته وكأن أحد لم يكتب عن الجنس من قبل، ويمكننا اختصار الأمر في فريقين يتحدث أولهما عن "أسلوبه وحياته" كما يتحدث الفريق الثاني عن "حياته وأسلوبه" ولا يخرج الأمر عن ذلك مما يبرز سؤالا ملحا : ماذا لو لم يخرج شاعرنا من بلده ؟ ماذا يا تري كانوا سيقولون ؟ وإلي من سوف يعزون مسألة التأثر؟! يقول كلينزالر أن تطور جن كان تدريجيا وفي الوقت نفسه مثيرا للجدل وهو محق في ذلك لأن جن بدأ الوقوف بالفعل عند موهبته وعالمه الشعري الخاص بصدور ديوانه "أسيادي الحزانى" عام 1961 وكان عمره في ذلك الوقت 32 عاما ثم أخذت تجربته في القوة تدريجيا خلال العقود الأربعة التالية حيث أصبح من أهم سمات كتابته الطزاجة وتعدد مستويات المعني بما قد تحتوي أيضا من تناقض ..مثال علي ذلك وصفه لحالة تكسر الموج علي الشاطئ في "من وحي موجة" قائلا :
التنهيدة المجنونة لذلك الفيض العابث
تنكسر بمجرد خروجها
تسقط بطيئا
حتي تضيع من نفسها .
ومثلما تكتسب الأجساد الملساء لونا لامعا
تقف الأقدام علي ظهور السفن
كأن كلاهما يحتمي بالآخر
هناك بالطبع طرق عدة للكتابة عن تكسر الموج علي صخور الشاطئ فقد يركز المرء علي الشعور بالخطر أو الرغبة في المغفرة أو حجم القوة التي تظهر في الفعل نفسه لكن توم جن بأسلوبه الخاص يستطيع أن ينقل لنا كل ذلك في دفقة شعورية واحدة عبر ألفاظ مكثفة وواضحة أظهر فيها كل من الموج والأشخاص والأماكن مشتركون في حالة عامة. نجد أيضا في قصائد الرثاء التي ميزت أشهر دواوينه "الرجل ذو ليالي العرق" قدم جن عدة مقارنات بين تهافت الرجال علي تحقيق الثروات ونفورهم منها ، كذلك في قصيدة "مايزال علي قيد الحياة" كتب توم عن مريض يحتضر حيث صنع صور عن "الأنبوب الذي يحشو فمه في وضع مؤلم" و "الأصددقاء الذين كانوا يتهافتون عليه / انفضوا من حوله الآن / أصبح وحيدا كالهدوء الذي يتبع قداس " . ومن القصائد الهامة والمؤثرة في هذه المجموعة أيضا تلك التي تظهر فيها الكناية بشكل واضح فتبدأ هذه القصيدة باستيقاظ رجل ذات ليلة ( نهضت من نومي بعد أن تملكني البرد / نعم أنا / أنا الذي كان يبحث عن مهرب من أحلام الجحيم ) وتستمر القصيدة حتي إدراك الرجل لوهن جسده وضعف قوته فينتهي قائلا :
أحتاج إلي تغيير سريري
ولكن أحتاج أولا إلي التشبث بنفسي
أقف حيث أنا
أحضن نفسي بقوة
كأنني أخبئها من الألم
كأن يدي كافية
لحمل جبل من الثلج
هنا يبرز توحد الروح والجسد "أحضن نفسي" وهو القادر علي نفي أو تجاهل الشعور بالضعف وقلة الحيلة الذي يتجلي في السطر الشعري الأخير. أخيرا قد يختلف البعض مع القصائد التي اختارها كليننزالر في هذه المجموعة لأنها في الحقيقة تميل إلي البساطة مقارنة بمجموعات جن السابقة فضلا عن صراحة ووضوح القصائد ذاتها فيما تحمل من رسائل أدبية أو مشاكسة ثقافية . وليس ذلك كل شئ فالمجموعة التي نتحدث عنها والتي تقع في 500 صفخحة ، تقدم لنا أيضا توم جن الشاعر المرح الذي لا تمل قصائده وخاصة الساخرة منها وبعيدا عن هجوم البعض علي هذه المجموعة (فكعادة لكل عمل نقاد يتربصون به) فإنها تعكس بقوة التواجد الحي لجن وكأنه لم يغب مطلقا .
No comments:
Post a Comment