Friday, June 4, 2010






النص والمعرفي
في ديوان على طريقة بروتس، للشاعرة حنان شافعي

د. محمود الضبع- 6ديسمبر 2009م

ماذا على الشعر أن يقول ؟

كان الاهتمام بالموضوع أحد المرتكزات الفارقة في الشعرية الكلاسيكية ، ولذا كان يناسبها من المناهج النقدية ما يهتم منها بالتفسير والشرح والتوضيح ، والوقوف عند ماذا يريد الشاعر أن يقول ، وماذا يعني ، وهو ما نلمسه لدى الشعراء أنفسهم " أنام ملء جفوني – المتنبي " ، وحكومة أم جندب النقدية بين امرؤ القيس وعلقمة الفحل ، حيث حكمت لعلقمة لأنه استوفى جوانب موضوعه ، والخلاف بين النابغة والخنساء في مجلس حسان بن ثابت بسوق عكاظ ، وغيره من الشواهد التي تؤكد على أهمية الموضوع دون النظر للأبنية وآلياتها ، حيث لم يكن هناك سوى شكل وحيد للبناء على الجميع أن يلزمه "البناء الفني للقصيدة وعمود الشعر كما تم تحديده فيما بعد " .

هكذا كانت عليه الحال في الشعرية العربية القديمة، واستمر الأمر حتى مع عصور النهضة ومرحلة ما بعد شوقي التي لم يزل لها صدى في الذائقة العربية حتى الآن.

إلا أنه ومع سيادة حركة التفعيلة في الشعر العربي ، فقد انفتح الباب على مصراعيه لانتهاك قدسية الموضوع (العقاد على سبيل المثال والتأسيس لحركة تطور فعلية في الشعر فأصبح كل ما تقع عليه العين ويقبل التحليل موضوعا للشعر ) ، وهو ما استثمرته قصيدة النثر في إحداث قطيعتها مع الشعرية العربية القديمة والتأسيس لمنجزها الذي لم يزل بعد في سياق التشكل ، ويوم أن يكتمل منجزه سيكون البحث عن شكل شعري رابع ليس معلوما حتى الآن ، فتلك هي طبيعة الأدب والوعي الثقافي عموما .

ويأتي ديوان "على طريقة بروتس " للشاعرة حنان شافعي واحدا من النماذج المشتبكة مع هذا الوعي ، والمؤسسة لتجربتها الخاصة غير معنية بمفهوم الجيل وتشكل ملامحه ، وتلك إحدى السمات المهمة في النظر إلى مشروع قصيدة النثر عموما ، حيث يمكن القول باختصار إن كتاب قصيدة النثر انتقلوا من "سطوة الجيل إلى البحث عن هوية " بما في ذلك من اختلاف وجهات النظر وآليات تداول القصيدة ، وهو ما يمكن التماسه عبر عناصر التشكيل التي يطرحها الديوان ، ومنها : الذات والموضوع – التمرد والتفرد – المعرفي والشعري – الوعي والقصيدة .


الذات والموضوع :

تماهت العلاقة تماما بين الذات والموضوع مع شعرية الحداثة ، بحيث غدا الخطاب الشعري يتحرك بمنطق الكشف عن الذات وتمثيلاتها ، عن طريق السرد تارة ، وعن طريق تفكيك النص تارة أخرى .

ومنذ البداية تعلن حنان شافعي عن تحويل مركزية النص الشعري حول ذاتها :

إِلَيَّ

وَحْدِي

أَتَمَرَدُ

وَأُجَرِّبُ

وَأَيْضًا أَدْفَعُ الثَّمَنَ

وتأتي القصيدة الأولى أيضا كاشفة عن الاهتمام بالذات بعنوان " في الاتجاه المعاكس " ، تقول:

أَشْيَاءٌ كَثِيْرَةٌ لا أَجِدُ مُبَرِّرًا لِحُدُوثِهَا

مَثَلاً..

أَبِي وَأُمِّي اللّذَانِ أَشُكُّ فِي عَلاقَتِي بِهِمَا

الأَنْيَابُ الَّتِي دَائمًا تَنْتَظِرُ كََبْوَتِي

أَصْدِقَائِيَ الَّذِينَ يَحْقِدُونَ عَلَيَّ

وَمَجِيئِيَ إِلَى الدَّنْيَا.

وشيئا فشيئا تتكشف الذات عن حضور الذات الأنثى التي تعالج عبر النصوص علاقاتها بالعالم من حولها :

علاقتها بأبويها في المقطع الأول .

وعلاقتها بنفسها وبمن تحب في المقطع الثاني .

ثم علاقتها بالآخرين والرغبة في التبرؤ منهم في المقطع الثالث .


التمرد والتفرد :

ولا ينفصل التمرد عن الذات والموضوع ، فموضوع معظم القصائد هو التمرد ، انطلاقا من كون شعرية الحداثة تعتمد على التجريب ، والتجريب هو نوع من أنواع التمرد ، على الأساليب اللغوية وطرائق تراكبها ، على أبنية الشعر ، على الشعرى واللاشعري. وعبر قصائد الديوان تأتي الملامح الدالة على التمرد في تجربة حنان شافعي الشعرية : في الإهداء، حيث يرد التمرد صريحا وواضحا ، ومقبول النتائج (أتمرد وأجرب وأيضا أدفع الثمن).

التمرد على الأبوين وعلى شريك الروح، وعلى من تعرفهم، وعلى وعيها (أقاوم الرغبة في التبرؤ من كل الذين أعرفهم )

التمرد على المجتمع الطبقي والأوجه البراقة للحضارة ، ومنه : التمرد على الأوبرا بوصفها النموذج الأكثر تحضرا في العالم (أتصنع الاستمتاع بمهارة عالية جدا ) فالتصنع يعنى قناعة الوعي بغير ما هو مفروض ، والتمرد على رابطات العنق الأنيقة وتناول طبق من الكشري في مطعم صاخب .. كل هذا دافعه هو التمرد ، تقول :

كُوبْرِي قَصْرِ النِّيلِ

مُمْتَنٌّ جِدًّا لاسْتِقْبَالِي،

وَالجَوُّ مُهَيَّأٌ تَمَامًا

لِمُمَارَسَةِ التَّمَرُّدْ.. ص18

ثم يأتي التمرد الماورائي بمفهوم "ألبير كامي"1، وهو ممارسة طقوس دينية لا تنتمي لمجتمعاتنا وأفكارنا وعقائدنا :

ثمة أشياء أجربها للمرة الأولى

مثلا قراءة تعاويذ بوذا

البحث في كتب تفسير الأحلام .ص32

وكذلك التمرد ضد العلاقات الإنسانية الاجتماعية :

تقليدي أنت كوجه أمي

ممل كدميتي  ص59

إضافة إلى الشخصيات أو الذوات الأخرى التي مرت عبر الديوان تحمل معها تمردها ، بين من يعلق جيفارا على صدره ، ومن تتحدى الفقر ، وهكذا .

المعرفي والشعري:

النص الشعري هو مجمل روافد ثقافية استطاعت أن تختزل الفلسفة والاجتماع والنفس البشرية والسياسة والمعرفة في نص يسمح بتأويلات عدة ، وتلك إحدى مكونات الشعرية وشروطها (تعدد التأويل) ، أما على مستوى التلقي فإن الشعر لايتواصل معه ولا يستقبله في الأساس إلا من يمتلك وعيا ومعرفة وثقافة ، وقبل ذلك جميعه يمتلك إنسانيته ، وقدراته العقلية التخيلية ، والخيال أحد أهم اشتراطات المثقف المعاصر .

وقد تعددت أشكال الخطاب الثقافي في الشعر العربي الحديث، فتنوعت بين السياسي والديني والفكري والفلسفي والتاريخي  ، واتخذ ذلك طريقين :

إما بالتشكل مع الخطاب المعاصر وبخاصة مع السياسي والفلسفي والفكري.

أو بإعادة إنتاج التراثي وبخاصة مع الديني والتاريخي.

ويمكن عبر ديوان "على طريقة بروتس " لحنان شافعي أن نلتمس بعض هذه الروافد المعرفية التي تتخذ مسارها عبر النصوص ، ومنها :

التناصات المتعددة مع التاريخي والفكري والديني ، مثل :

كونفوشيوس الذي علمه الصبر

هو نفسه الذي أوصاني

ألقنه الجنون .    ص 19

أو أن أعالجه من فوبيا عبور الطريق

مقابل أن يكف عن ترجمتي إلى أفكار ص20

صوفية الطاوية

شبق الأربعينات

السماء التي تتوسل رضا البشر

محطات مترو بكين الأكثر انضباطا ص20.

من فضلك

احجب عني عينيك السرياليتين إلى الأبد ص 21.

عنوان "الموت على طريقة بروتس " ص 29.

ثمة أشياء أجربها للمرة الأولى

مثلا قراءة تعاويذ "بوذا" ص32.

الآن أشعر بحاجتي إلى آلاف الأقراص المنومة

وقديس يعدني بالغفران. ص 33.

شكسبير .. لماذا يصر على سرقة أفكاري ؟

بينما تصر جدتي أنني عانس المستقبل. ص40

لكن خوفي على "الفردوس المفقود " مازال يملكني

وكذلك رأس مكبث تطاردني ص43.

هذه المتناصات وغيرها كثير تستدعي بالضرورة وعيا مصاحبا لوعي النص ، وهو وعي لا يأتي بمعرفيته فقط ، وإنما يحمل أيضا معه جمالياته التي ترسخت فينا عبر الزمان ، فالشاعرة عندما تعلن مطاردة رأس مكبث لها ، فهي تستحضر التراجيديا بمفهومها العام ، وتستحضر عالم الرعد والبرق والساحرات والنبوءة وتولى الحكم وفقده .. فكيف ستكون عليه تلك الرأس المشحونة بهذه المآسي عندما تحل في رأس الشاعرة .

التناص مع شكسبير في سرقة الأفكار ، يحيلنا إلى مرحلة نعايشها جميعا ، حيث نرهق أنفسنا في التوصل إلى فكرة ، ثم نكتشف بكل بساطة أنها تم إنجازها على يد كاتب كبير ، وهذا أحد أسرار الكتاب الكبار ، أنهم يعالجون أفكارا كثيرة وعلى مستويات عديدة تكاد تختزل العالم .

أما التناص مع "قديس يعدني بالغفران " فيستدعي فكرة التطهير المسيحية والاعتراف بالذنب في مقابل المحو ، مع ما في المسيحية من روحانية كثيفة وتساهل في الأمر .وفي التناص مع عنوان "الموت على طريقة بروتس " حيث خان بروتس صديقه الحميم يوليوس قيصر ، الذي كان على وشك حكم روما ، واتفق مجلس الشيوخ ضده ، وتوالت الطعنات عليه ، وكان من بينها طعنة بروتس ، وهنا قال يوليوس قولته الشهيرة ، والتي بررها بروتس بأنه يحب يوليوس ولكنه يحب روما أكثر .

فأي مستوى من هذه المستويات تستحضره الشاعرة في نصها ، هل ترى ذاتها في يوليوس قيصر وكل من حولها خانوها ، أم ترى ذاتها في بروتس الذي يمتلك فلسفة كما صورها شكسبير ، أم ترى أن التاريخ يعاد وما فعله بروتس صار طريقة للحياة الآن ؟

هنا ينفتح باب التأويلات ، ويستمر في طريق تشكيل الجمالي والواعي أيضا .


الوعي والقصيدة :

ليست كل القصائد المنجزة في سياق قصيدة النثر تحمل وعيا.

ودائما هناك صراع بين الجميل وبين الكشف عن الوعي ، وتلك إحدى تحديات النص الشعري. لحظة الوعي في القصيدة قد ترد عبر جملة ، أو كلمة ، ولكنها هي التي تبقى حتى بعد الانتهاء من القصيدة .

ينتمي ديوان حنان شافعي إلى الاتجاه الذي يحتفي بالذهني على حساب البلاغي ، وهو اتجاه عالمي له مريدوه ومؤيدوه ، وله رافضوه من باب الصعوبة التي يواجهها التلقي  ،وبخاصة إذا كان النص مسموعا ، ولكن على أية حال فإن شعرية قصيدة النثر بكاملها تكتسب التواصل معها عبر قراءتها وليس عبر الاستماع إليها ، لأسباب عديدة منها اعتياد الأذن على الإيقاع العروضي ، وعدم اعتيادها على الإيقاع الداخلي الذي تبنته قصيدة النثر ، ومنها الفجوات العديدة في مساحات التلقي التي تعتمد عليها القصيدة قياسا إلى الشعرية العمودية أو التفعيلية مثلا .

ونتيجة لاهتمام حنان شافعي بالذهني، فإن النص يبدو صلبا جافا بعض الشيء على مستوى التلقي ، وبخاصة إذا ما تضافر مع ذلك معطيات المعرفي كما تم رصده سابقا .

الوعي دوما حاضر في صياغة التركيب وبناء الصورة :

هي تعلم جيدا

فشل كل كتب الفلسفة

في الإجابة على تساؤلاته

وفشله في الوقوف على المسرح طويلا .  ص 13.

تلك هي إحدى مستويات الوعي بالآخر ، وهو مستوى أعقد من الوعي بأنفسنا ، فنحن قد نصدر هذا الحكم على أنفسنا ، ويكون صادقا ، أما أن نصدره على آخر .. وماذا لو كان ذلك عاما .

ومنه قولها :

أقاوم رغبتي في التبرؤ

من كل الذين أعرفهم .  ص13

فمقاومة الرغبة وعي فارق ، والتمكن من ذلك انتصار . إذ كل شيء يبدأ في الوعي أولا ، ولا تغيير في مسيرة الإنسان والحياة ما لم يتغير الوعي سابقا .

تقول في قصيدة بعنوان "أن أمحوك من ذاكرتي " ص65:

كالعادة

هاربة من اللامعنى

أجتهد في تجاهل صوت داخلي يلح علي ضرورة انسحابي

أفشل

وأعود لأفشل ثم أعود

وعلى الرغم من أن النهاية تتبنى المفارقة في الارتباط بإشارة المرور ، إلا أن الوعي حاضر في المحاولات التي تقوم بها ، وفي الإصرار على امتلاك القدرة على الانسحاب . وفي هذا السياق تأتي قصائد عدة ، منها قصيدة مراوغة الأخيرة على سبيل المثال ، وهي قصيدة تحتمل العديد من التأويلات على مستويات عدة ، فقد يتم تلقيها في سياق الوعي الذي يحضر ثائرا على فتور العلاقات الزوجية ، وقد يتم تلقيها في سياق الوعي بالوضع العام لحياتنا وعلاقتنا الاجتماعية والسياسية .. إلى ما يمكن أن يحتمله النص من تأويلات تبعا لقدرة المتلقى وتوجهاته .


ختام :

ديوان "على طريقة بروتس " هو الديوان الأول للشاعرة حنان شافعي ، والتجربة الأولى تخرج بطزاجتها وجمالها ، ولكنها تظل تجربة أولى ، فكما لو كان الحكم بالشاعرية يبقى معها مؤجلا حتى تتضح لدينا معالم التجربة عبر أكثر من ديوان ، ثم عبر المشروع الشعري إجمالا .

غير أن ذلك لا ينفي أن نتعامل مع الديوان في إطار الأعمال الأخرى المجايلة له ، والأصوات الشعرية الأخرى داخل إطار قصيدة النثر من جهة ، وأن نتعامل مع الديوان عبر البناء الفني والآليات التي اعتمدها ، ومنها على سبيل المثال بنية المفارقة بأنواعها : المفارقة اللغوية ، ومفارقة الموقف ، ومفارقة الحالة ... إلخ ، حيث كانت هناك إمكانات ومساحات مضيئة عبر القصائد والنصوص لكنها لم تستثمر على هذا النحو لصالح بناء النص .

فمثلا نص مثل : أن أمحوك من ذاكرتي ص 65 كان يمكن استثمار بنية المفارقة فيه ، وهي متحققة ، لكنها في الإمكان تعميقها على نحو أكبر ، فلا ينتهي النص بمجرد ذكر إشارة المرور بجانب بائع الجرائد ، حيث انتقل هنا النص إلى محاولة كتابة اليومي والمعيش ، فخفتت البنية الفنية . أيضا بناء الصورة والفجوات التي يجب أن يصنعها النص ليخرج من إطار السردية والنثر الفني إلى إطار شعرية قصيدة النثر ، ثمة صور وعلاقات لغوية :

ما زال يصر على استدراجي للركض في شوارع عقله اللانهائية .

وأهرامات ثقافتي تتخلى عن تماسكها . ص20

غير أن الديوان في سياق تجربته يضم إلى منجز قصيدة النثر في مصر، ويعبر عن وجهة نظر كاتبته في الحياة واللغة والشعر ، وهو لها في النهاية


No comments: