في رحاب القديسة كاترين
فرصة أخيرة لتعلم فضيلة الصمت
ثمة أشياء تفاجئنا بها الحياة بعد أن فقدنا الأمل في حلوها إلى الأبد ..من هذه الأشياء كانت رحلة –الآن اكتشف أنه قد مر عليها عامان – إلى فردوس بديع من بعض ما حبت به السماء، أمنا التي أحني الزمان قامتها "مصر" ، هو فردوس حقيقي ليس لأنه يقدم خدمة سبع نجوم علي طريقة فنادق النيل ، أو لأنه يحقق أحلام الحور العين وأنهار الخمر، ولكن ببساطة شديدة لأنه يمنحك فرصة الاختلاء بنفسك..يعلمك فضيلة الصمت ، ثم إذا ما ارتقيت بتعلمها يمكنك الحديث مع الله من علي جبال كليمه "موسى" ..والحديث مع الجبال ذاتها التي ستجعلك حتما تخر لجلالها وروعة الفن الذي ينساب منها . إنها منطقة "سانت كاثرين" بكل ما فيها من جبال وأودية وصوامع رهبان مختبئة في بطون الجبال ..كل شئ وأي شئ حتى حبات الرمال التي تدهمها سيارات الزوار وتزعج هدوءها المنساب تلقائيا .
كانت الفكرة منذ البداية كفيلة بأن أستكمل المغامرة وأصنع منها حلقات أخرى ، فصديقة الجامعة التي أعلم بنشاطها واهتماماتها الكنسية تقترح علي الانضمام إلي رحلة تستعد لها مجموعة من الأخوة المسيحيين إلى دير ومنطقة القديسة كاترين ضمن ما يقومون به من رحلات إلي الأديرة والموالد المرتبطة برموز وشخصيات دينية بعينها ..لمعت الفكرة في رأسي وشعرت أنها فرصة ثمينة لاكتشاف الكثير وزيارة مكان نسمع عنه كل حين ..وبالفعل اقترحت بدوري علي أحد الأصدقاء الانضمام إلينا وتحدد مكان وزمان الانطلاق.
أثناء الطريق ولأنها رحلة دينية بالنسبة للأصدقاء بدأ السائق في تشغيل شرائط فيديو تحتوي أفلاما روائية قصيرة حول سير أنبا مثلا أو أب وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشاهد فيها أعمالا فنية مسيحية موجهة بهذا الشكل ولم أدرك إلا بعد فترة أننا كمسلمين نفعل هذا الشئ أيضا من خلال الأعمال التاريخية الدينية التي تمل الشاشات تكرارها في المناسبات.. والحقيقة –و والله العظيم بقول الحق- جعلني ذلك الموقف أتساءل حول هذا الكم من الجهل الذي بيننا وبين آخر نعيش به و معه ،نقتسم سويا الأرض والتاريخ والهواء الذي تتبادله صدورنا وظللت أفكر في مستويات هذا الجهل حتى أخذني بريق آخر و جلال يصعب احتماله ..نعم إنها أرض سيناء التي بمجرد اقترابي منها أشعر باحترام وعشق يتدفق من رأسي حتى لا تقوى علي احتماله عروقي، يقترب في زلزلته من رجفة القلب عند احتضان الحبيب بعد فراق .
ربما تكون علاقتي بسيناء مجرد حدوتة أسمعها وأرددها في مطلع أكتوبر من كل عام لكن حتى هذه الحدوتة –التي هي جوهر العلاقة- أصبحت بالنسبة لي شيئا عظيما يرتبط بطفولتي وحماسي لترديد الأغاني الوطنية في إذاعة المدرسة طوال ذلك الشهر، مرتبطة بدموعي التي أشعر بسخونتها علي وجهي كلما تابعت إطلاق الرصاص علي الجندي الذي يرفع العلم علي أرض سيناء ،ثم بعد أن كبرت قليلا غدت العلاقة مرتبطة بمحبتي وتقديري لعم فوزي بائع اسطوانات الغاز الذي فقد ساقه في الحرب وينتشي كثيرا كلما وقعت عيناه علي..فقط لأنني أمنحه فرصة الحديث عن بطولاته في المعركة، وكالعادة ينهي اللقاء بأن يرفع جلبابه المتشرب برائحة الغاز والتبغ ليكشف عن ساق صناعية تحل محل ساقه العظيمة.
نعود إلي رحلتنا وقد اقتربنا من المكان الذي لا يخفى علي أحد هدوءه وغموضه الذي يسحر الحواس ويؤكد علي عظمة الكون في مقابل ضعف هذا الكائن الساذج المتعجرف الذي نسميه مجازا "بالإنسان" توقفت السيارة في مساحة واسعة معدة سابقا كمدخل ، يشق صمتها حديث باهت بين جنود الحراسة و كذلك نظرات بائعي المحال القليلة جدا التي توفر بضائع يدوية سيناوية، ثم تحتل المشهد بقوة سيارات القوات متعددة الجنسيات التي ترتاح العين لأناقتها ، ووسط هذا التجمع البسيط تظهر بين حين وآخر سيارة سياحية تحمل فوجا أو تأخذ آخر .
كانت الساعة قد تعدت الثانية صباحا وطبقا إلي الخطة التي أعلنها منظم الرحلة أننا وصلنا في التوقيت المناسب بحيث نبدأ بعد قليل من الراحة صعود الجبل وبعد النزول في الصباح تكون زيارة الدير وهكذا..الخطوات الأولى أشعرتني أن المشوار طويل وليس سهلا علي الإطلاق خاصة مع أمثالي ممن يعانون تشكيلة من أمراض الشيخوخة المبكرة !!...قررت بيني وبين نفسي أن أقاوم ،بل واستمتع كالآخرين دون الالتفات لأي شئ آخر .
رغم كثافة الظلام الذي يخيم علي المكان كانت النجوم مزدهرة تستأثر بالسماء دون دخان مصانع أو عوادم سيارات ، الهواء النقي أيضا يجبرك علي ملاحظة الفرق بينه وبين أي هواء في أي بقعة أخرى ويجعلك تتحسر علي ما تحمل رئتيك من كوارث..بعد انتهاء هذه المسافة الأرضية وبداية صعود الجبل تجاورك الأفراد أو المجموعات التي انطلقت قبلك أو تلك التي أوشكت علي إنهاء المسيرة ، المدهش أن ذلك لا ينتهي طوال الطريق ومهما انحرفت عن المجموع واتخذت منحى مختلفا سوف تجد من فعل مثلك أو يفعل..بل أن الرائع في ذلك هو تنوع واختلاف الأشكال والألوان والجنسيات التي تقابلك فتجد من يلقي عليك تحية الصباح بالانجليزية الرائقة أو بالفرنسية أو بالعربية المتعثرة أو بالانجليزية المتعثرة أيضا إذا كان وجهه مستديرا والعينين ضيقتين ..وكأن اللحظة تؤكد على أخوة البشر واتساع الكون لهم حيث التنوع وهدوء النفس والمتعة الجمالية وحديث دائم بين السماء والأرض .
في حوالي السادسة أو أكثر قليلا تبدأ الشمس في الإشراق فتستقبلها قمة الجبل كسيدة نبيلة في بهو قصر ملكي، ويبدأ الكون في الاحتفاء بأشعتها ..لحظتها ينظر الزائر إلي نفسه ويتحسسها بعد ظلام طويل فيطمئن علي أعضاءه مرتبة بحسب تصوره عنها ،وكذلك يكتشف موقعه فوق الجبل الشاهق الذي تبرز طياته كجداريه أبدع في صنعها آلهة الفن في كل العصور . أما رحلة العودة فلا تقل متعة أيضا حيث مزيد من الاكتشاف والعثور بين صخرة وأخرى علي نبتة شديدة الروعة والوحدة في الوقت نفسه ،وبمجرد الوصول إلي نقطة البداية انتظرنا قليلا حتى جاء دورنا في زيارة الدير الذي تشهد جنباته بعمق فكرة الإيمان والإخلاص سواء بوجوده في هذا المكان القصي من الحياة بعيدا عن الناس، أو في دوره بتذكيرنا بقصة القديسة كاترين ذاتها التي احتملت الكثير وهي فتاة صغيرة جميلة من أجل قول الحق وازدراء لغيره من متع الحياة التافهة .
No comments:
Post a Comment