Tuesday, May 17, 2011



النفاذ من أضيق الثقوب.. على طريقة بروتس

د/ عبير سلامة

من السهل أن يتعاطف المتلقي مع صوت الذات، متفهما علو نبرته وحدة سخريته، نتيجة التأثيرات الأسلوبية لعملية انتهاك التواصل مع المتلقي الافتراضي، ونزع الألفة عن أحداث وعلاقات تتحول بالتكرار إلى أفعال آلية بدون وعي أو إحساس. هذه العملية حاسمة في الاستجابة للشعر، ولقصيدة النثر بوجه خاص، لأنها حسب المشهور قصيدة اليومي والمألوف، ما يجعلها متورطة في آلية التواصل إلى حد يشوش على أدبيتها ويخلط بين الشعري والنثري.
تتشابك في الديوان علاقات بالأهل، الحبيب، الأصدقاء، العابرين في الشوارع، الجسد، والأشياء، مع أحداث اللقاء، الهجر، والموت. وتُنزع الألفة عن هذه العلاقات والأحداث المعتادة، من خلال تصميم يضيف تأثيرات أسلوبية على المستوى الصوتي والتركيبي والدلالي.

\'عباسية.. عباسية.. عباسية/ ويشير بيده/ إلى انفلات صواميل الجمجمة/ أركب بإرادتي/ ويتبعني الآخرون/ كل الذين أحبهم/ سبقوني إليها\'.

الإيقاع.. تبديلات التراكيب.. الاستعارة.. التورية، كل ذلك ينتج تأثيرا نازعا لألفة الإشارة اليومية للجنون، ومُعيدا الحياة للإحساس الممتد عبر القصيدة بمعنى الشك في شرعية حق الحياة، ومعنى افتقاد أسباب للثقة في النفس غير شهادة الميلاد وتفاصيل الجسد ومواثيق الأمم المتحدة.
الصورة في المقطع السابق، وفي الديوان كله، تحاول منحنا إدراكا خاصا بما يُقال، خلق رؤية للأشياء لا مجرد خدمتها بالعمل على تعريفها. ويتحقق التركيز الأقصى للرؤية عندما يتم دفع التواصل مع المتلقي إلى الخلفية وتقديم التعبير عن الغرابة، كأن يكون الفرق بين الذات وفرويد \'أنه ركب القطار مبكرا\'، أو أن الصديقة \'لن تستطيع إنجاب أطفال/ لأنها نباتية\'.

تعلو نبرة رفض الازدواجية والأقنعة الاضطرارية، من قصيدة إلى أخرى، والغاية ترجيح نمط مخصوص من التفاعل مع الآخرين، نمط غير مشروط بصفقات الحب والصداقة، فمنذ بداية الديوان تواجهنا صورة الذات منقسمة على نفسها، ويتم التعبير عن الانقسام بشكل بسيط من خلال التردد ما بين صوت ضميرين مختلفين (أنا/ هي) لتأكيد حالة الحيرة، ومحاولة تجاوزها، ثم الفشل في المحاولة.
تقاوم الذات محاولات سلب هويتها، تضطر للتصنع في حضور الآخرين، ترغب في الصمت وفي ألا تتم ترجمتها إلى أفكار، تشعر بالإرهاق من محاولة إجبارها على اختيار منافذ ضيقة للهروب، وتمارس طغيانها على الأضعف لإقناع النفس بأنها ما زالت تجيد فنون السيطرة، هي التي تمرست على الطاعة، دربت أعضاءها على أن تتبعها بهدوء، واختبرت قدرتها على إخضاع الأشياء، عندما تجد نفسها أمام عقل متعجرف يتصرف مثل قيصر، فلابد أن تشعر بالحاجة إلى التصرف مثل بروتس.
هناك عالم يُدير الوجه للذات، تزحمه فضلات أفكار، عجز عن الإحساس بدفق الحياة، صقيع وحدة، ورغبة في دفء بدون مقابل. لا أحد يستطيع المساعدة، مادام فاشلا في الإقناع، ماهرا في الحديث عما لا يتقن، ويسهل توقع أفعاله، حتى لو \'كان دافئا بما يكفي\' ستتخلى الذات عن الدفء الذي تنشده، لأنه بمقابل.. أن تنجح مثلا في توريث الأطفال عقدا نفسية وفي وضع \'الروج\' بطريقة مغرية، أو أن تشعر بالذنب والغضب إلى حد الرغبة في القتل.
لا يعني التمرد في الديوان رفض التواصل مع آخرين، بل رفض شروطه، التمرد الحقيقي كان على خيانة الذات بالاستسلام لمحاولات طمس هويتها، على قبول صفقات البنوة والحب والصداقة فقط للهروب من صقيع الوحدة، إنها تنشد الاعتراف بحقها في حب غير مشروط، وبنزعها الألفة عن آليات التواطؤ أو المراوغة مع الشروط تقول إن النتيجة لن تكون سوى النفاذ من أضيق الثقوب، أو الموت على طريقة بروتس.. الخيانة، ثم الهزيمة، والانتحار.

*جريدة الدستور الأردنية، 15 أبريل 2011.

No comments: