ذات متمردة تجابه العالم
عمر شهريار
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiZrg66n5JJDY3do2mJ6OFxR0Hjd7cv_djfezawIsV1nctSQ5fxUYlRZAPrEkzx_WV35CIGYdqfIy_UOhZgVXQBLfsc8qYwcCtW4qGWB8KDycSFYeXxiMhSJ5P_l8w-QU6TnQMemDWqig7L/s200/%25D8%25B5%25D9%2588%25D8%25B1%25D8%25A9+%25D8%25B9%25D9%2585%25D8%25B13.jpg)
العنوان، إذن، وكعتبة أولى للنص، ينفتح على ذلك الموروث الثقافي المرتبط بالخيانة، فالذات الشاعرة منذ البدء تعلن عن االمسار الذي تنتهجه؛ وهو الخيانة ، ولكنهاخيانة جملة من الممارسات والتصورات الذكورية التي تموضع المرأة في نطاق ضيق بعينه، ومن ثم فإن الذات الشاعرة الأنثوية داخل النص تبدو طوال الوقت كمتمردة وخائنة لهذه التصورات الذكورية السائدة ، ولكل المفاهيم الراكدة، وذلك عبر لغة شعرية لا تنغلق على نفسها ، ولعل هذا النزوع نحو التمرد واخيانة يتأكد مع الإهداء، كعتبة ثانية، تقول : "إلي../ وحدي / أتمرد / وأجرب / وأيضا أدفع الثمن " فالذات من خلال هذا الإهداء تعيد التأكيد على ما صدرته لنا في العنوان من رغبة في التجريب والتمرد على الموروث الثقافي وخيانة ثوابته . وربما يكون الغلاف، أيضا، كعتبة تؤطر الدلالة الكلية للديوان تؤكد ما ذهبنا إليه ، حيث نجد على يمين الغلاف صورة لتمثال رجل روماني يتميز بقوة جسدية واضحة مشمرا عن ساعديه ، في حين أن يسار الغلاف به مجموعة الكلمات ال‘نجليزية المكتوبة بخطوط متباينة وتحتل معظم الغلاف، وتبدو كما لو كانت تزيح ذلك الذكر إلى الخارج .فالكتابة _ ويجب أن نتأمل مفهوم الكتابة والوعي الكتابي الذي يرفض الصيغ الجاهزة وانتقال المعرفة من الكبير للصغير عبر الوراثة الثقافية_ اليسارية تزيح الذكورة اليمينية .
لا تختلف عناوين القصائد عن الطرح الدلالي الذي صدرت العتبات الأولى، فنجد عناوين مثل " في الاتجاه المعاكس" ، "بحثا عن منطق للهروب" ، "أن أمحوك من ذاكرتي" ، "مصارحة" ، و"مراوغة " . هذا الطموح في التمرد والتملص من كل ما يربط هذه الذات بعالمها الزائف سنجد له أكثر من مجلى داخل القصائد ، بل ومنذ القصيدة الأولى التي تفتتحها بقولها :
"أشياء كثيرة لا أجد مبررا لحدوثها
مثلا..
أبي وأمي اللذان أشك في علاقتي بهما
الأنياب التي تنتظر كبوتي
أصدقائي الذين يحقدون عليّ
ومجيئي إلى الدنيا " (ص11)
فالذات تقدم منذ البدء مبرراتها لهذا التمرد، بل وتشكك في بديهيةعلاقاتها بالعالم، ومن ثم فإنها تحاول دحضها وتدمير طبيعيتها المدعاة، فنجدها تربط بين الأم والأم والأصدقاء وبين الأنياب التي تنتظر كبوتها ، ثم تتحول إلى التساؤل عن جدوى المجيء إلى الدنيا برمتها، باعتبار أن الذات قد جاءت إلى عالم يتأسس على جملة من اللاقات المستقرة والثابتة والتي لا يمكن الخروج عليها، بما ينفي أهمية وجود هذه الذات من الأساس بما إنها لا تملك القدرة على الخروج على هذه العلاقات أو الخروج عنها .
هذه الذات في محاولاتها الدائبة للخروج على الأنساق القارة في هذا العالم ، والتي توهم بعدم إمكانية الخروج عليها، عانت العديد مـن الإخفاقات والتراجعات والانكسارات، ولكنها لم تكف عن محاولة النهوض مرة أخرى للوقوف في مجابهة العالم، هذا النهوض الذي لم يتأت لها بسهولة :
" بين اللحظة والأخرى
أقف أمام المرآة
أتحسس أعضائي،
أدربها كيف تتبعني في هدوء..
ألقن نفسي جملا مرتبة...
وأعد لساني بكثير من الحلوى..
إذا ظل حافظا وواثقا فيّ " (ص32)
فالترتيب الزمني المتلاحق لهذه التدريبات بين اللحظة والأخرى دال على ديمومة حفز الذات الذي لا يتوقف لحظة واحدة ، ثم نجد حالة المواجهة المرآوية التي تمارسها مع نفسها متحسسة أعضائها لتتوثق من قدرة جسدها على خوض مثل هذه المواجهات،ثم نصل إلى مركز ثقل دلالي داخل هذا المقطع وهو أن يكون الجسد واثقا في الذات وحافظا لرغبتها في التمرد، بعد أن مارست مواجهة ذاتها قبل أن توجه العالم .
إذا كانت الذات تسعى نحو مواجهة العالم والتمرد على أنساقه القارة، ومحاولة إنجاز أنساق أخرى تخصها وحدها ، فإنها، أيضا ، تصل إلى نوع من مواجهة الأمكنة ؛ التي تنقسم إلى دافعة وحافزة لهذا التمرد وأخرى محبطة له :
" خلف أسوار الأوبرا المتعجرفة
حيث الأشياء
متحضرة إلى درجة الموت.
يتبادلون أحاديث مجففة
حول الترجمة،
وأنا
أتصنع الاستمتاع بمهارة عالية جدا " (ص17)
فالذات تبدأ بإدانة المكان الذي تصفه بالمتعجرف، كما تبرز الإشارة إلى الأسوار ، فيتحول دال التحضر عن مدلوله الرئيسي ويكتسب مدلولا جديدا يناقض مدلوله الأول، فتصبح المباغة في التحضر مرادفة للموت، ثم نجد مبررا تاليا لإدانة هذا المكان من قبل الذات ، إذ يقوم بتقسيم رواده بطريقة متعسفة ، فجد مجموعا يقف مترابطا مع بعضه البعض متبادلا الأحاديث المجففة في مواجهة "أنا" تقف بمفردها وتحتل سطرا شعريا كاملا بمفردها . هذه الأنا التي تتصنع الإنصات والتواصل مع الخطاب الذي يطرحه المجموع ، ولكنها في الوقت ذاته تسعى نحو تشييد خطاب مغايرلن يتسنى لها إلا عبر تفكيك وتكسير ذاك الخطاب المهيمن الذي يطرحه المجموع .
على النقيض من هذا المكان نجد مكانا آخر أكثر حميمية في علاقته بالذات ، ويتيح لها إمكانية إنتاج خطابها الخاص :
" كوبري قصر النيل
ممتن جدا لاستقبالي،
والجو مهيأ تماما
لممارسة التمرد" (ص18)
الكوبري ،هنا، يأتي محملا بدلالاته كجسر للعبور نحو شاطئ آخر، ومفارقة الوضعية التي الذات نفسها فيه ، فضلا عن حالة الانفتاح وانتفاء الأسوار الخانقة ، فأسوار الكوبري لا تحمل نفس السمت الدائري الحاكم للمكان، ولا تحمل أسواره دلالات الحبس أو القهر . ورغم أن الكوبري قد يكون مكانا لتجمعات بشرية أكبر من تلك التي رأيناها في الأوبرا، فإنه لا يوجد عليه مجموعة تمتلك خطابا كليا تعيد تدويره وتسييده وفرضه على آخر لا يملك سوى أن يعتنق هذا الخطاب ويتبناه، أو يظل ـ في أفضل الظروف ـ مستمعا ومتلقيا سلبيا. فالكوبري فضاء للخطابات الذاتية، وكل من عليه يمتلك حرية إنتاج وتشييد خطابه الخاص، بعيدا عن أية خطابات كلية تسعى نحو الهيمنة، ومن ثم فإنه المكان الأكثر مثالية لممارسة التمرد.
نحن، إذن، أمام ذات تسعى نحو الانفلات من هذا العالم والوصول إلى فضاءات جديدة ، تصنعها بنفسها لتعيش فيها بعيدا عن كل ما يجذبها نحو الأرض :
" فقط
أود الآنفلات من نطاق الجاذبية
لأطير كفراشة" (ص68)
وهكذا تمارس الذات فعل خيانة عالمها الأرضي بكل أنساقه، محاولة الانفلات من كل هذه الأنساق وجاذبيتها ، محاولة الوصولإلى حالة وجودية مغايرة وفي فضاء ثقافي مغاير بلا أسوار، وسمح لها بإنتاج خطابها الخاص.
No comments:
Post a Comment