دراما قاتمة للثنائي الإماراتي إسماعيل عبد الله وحسن رجب
"السلوقي" لعبة مسرحية للخوض في المسكوت عنه
أبوظبي- حنان شافعي
عندما يتحلى الإبداع بالجرأة يتمكن الفن من لعب دوره الحقيقي في تحقيق المتعة وطرح أسئلة عميقة ، وعندما يتعلق هذا الفن بالمسرح يصبح الرهان أقرب إلى المكسب خصوصا إذا أمسك بطرفي التجربة كاتب مثقف مثل الإماراتي، إسماعيل عبد الله، ومخرج مبدع ومسؤل مثل الفنان الإماراتي ،حسن رجب، هذا الثنائي الذي تجمعه رحلة مسرحية طويلة انسجم فيها الإبداع مع الحس النقدي الفلسفي إضافة إلى جرأة الطرح التي كثيرا ما تثير حولهما جدلا واسعا.
في عملهما الأخير "السلوقي" يمارس إسماعيل عبد الله لعبته الأثيرة في العودة إلى الماضي والإغراق في المحلية المتمثلة في العادات والتقاليد الإماراتية، وطريقة الملبس والمأكل ووسائل كسب الرزق في الماضي، الذي لم يكن يعرف رخاء النفط ولا أوجه الحداثة، وفي مقدمتها الصيد، ومجتمع الصيادين الملئ بالدراما والصراعات حول السيطرة على مناطق الصيد وتقسيم الصيادين إلى فئات طبقية غالبا ما يتحكم فيها تجار بعينهم أو شخصيات ذات حظوة إجتماعية وبالتالي اقتصادية مثل "النوخذة"، وهي كلمة تعني أساسا قائد السفينة والمتحكم فيها لكنها تتعد المفهوم المهني للكلمة إلى السياق الإجتماعي الطبقي، ثم علاقة هذا المجتمع بالاحتلال البريطاني وكيف أثر كلاهما على الآخر. كل ذلك يمثل غالبا المادة الخام التي يستلهم منها عبد الله عوالمه المسرحية ويشكل الكثير من الأفكار والقضايا التي تتماس مع الحاضر ، باعتباره في كثير من الأحايين امتداد لها، لكنها تبدو على السطح قادمة من زمن مضى وشخوص لم يعد لهم وجود في المجتمع الجديد، بل ربما لم يعد لهم وجود على الإطلاق إلا في ذاكرة العجائز الذين لا يزالون مسكونين بروح تلك السنوات ولا يخفون دهشتهم بما طرأ على مجتمعهم من تغير، ولا إخفاقهم في التعاطي معه بعكس الأجيال الجديدة.
ولم يخرج نص "السلوقي" من هذه الدائرة إذ يقدم حدوته غرائبية، تشبه كثيرا حواديت الجدات، عن النوخذة "عمران"، و يؤدي دوره الممثل عبد الله مسعود، الذي يملك كلبا من نوعية السلوقي التي يعرف عنها مهارتها في الصيد وسرعتها في الجري التي تأتي في المرتبة الثانية بعد الفهود (تصل إلى 80 كم) وهي متفردة عن غيرها من كلاب الصيد التي تصيد جميعا لنفسها بينما يصيد السلوقي لصاحبه وهي من إشارات الإخلاص والألفة بينه وبين ذلك الصاحب. في المسرحية يعيش هذا الكلب/ السلوقي كأحد أفراد العائلة حيث أخذه، عمران،عن الاحتلال البريطاني الذي كان موجودا في البلاد مثلما كان موجودا في كثير من البلاد العربية كمستعمر قوي قادم من مجتمع أكثر تحضرا من تلك التي يسطو عليها، ولأن المجتمعات العربية كانت بسيطة تعاني كثير من التخلف آنذاك، كانت تنظر إلى هذا المحتل بعين الانبهار، النظرة ذاتها التي ربطت بين عمران وكلب الإنجليز فتم التعامل معه بطريقة فيها كثير من الحرص والاستثنائية نظرا إلى كونه أجنبيا وبالتالي مميزا في إشارة إلى عقدة النقص أو "عقدة الخواجة" التي لازال يضمرها العربي إلى كل ما هو أجنبي أو مستورد بصفة عامة وقد يكتشف المرء في كثير من الأحايين أنها درب من وهم ورواسب تاريخ إستعماري لا أكثر.
السلوقي إذن هو مربط الفرس ومحور اللعبة المسرحية على حد تعبير المخرج، حسن رجب، الذي يتضح بقوة ذكائه في اختيار فريق العمل وفي مقدمتهم الممثل، حميد فارس، الذي أبدع في تجسيد دور الكلب لدرجة تبهر جمهور المسرحية في كل مرة تعرض فيها، آخرها على مسرح كاسر الأمواج بأبوظبي، ربما لأنه نحيف الجسد فبدا رشيقا مثل السلوقي الحقيقي من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه ممثل موهوب و مفعم بطاقة أدائية عالية ظهرت في ركضه على الخشبة خلف صاحبه/ النوخذة ، وصياحه الذي يحمل مرارة الرغبة في التخلص من قيود الجسد، ثم تشنجه وحركة أطرافه الأربعة التي أداها فارس ببراعة مثل كلب حقيقي لكنه ليس أي كلب إذ كان يعوي كنصف كلب ويبكي كنصف إنسان ،لا يملك المتلقي إلا أن يتعاطف معه ككائن انطلق به طموح جامح إلى أن يتطور ويترك بني جنسه ليصبح إنسانا يتكلم ويتحرك ويختار بل ويعشق كإنسان مكتمل .
إلا أنه من الصعب أن يتحقق ذلك، بعكس اتجاه تعاطف الجمهور، لأنه في الحقيقة كلب له من صفات الكلاب أكثر مما له من صفات الآدميين حتى لو كان كلب النوخذة الذي يتباهى به في كل مجلس ويحتمي به ضد منافسه على السطو والغلبة، النوخذة الصاعد ، طارش، قام بدوره الممثل ابراهيم سالم ، وحتى لو أعطاه سيده مكانة كبيرة تضخمت مع الوقت بسبب ضعف وخوف السيد نفسه كعادة الجشعين وغير العادلين ، بل إن التطور الدرامي يكشف كيف انقلبت هذه المكانة/ التي اكتسبها السلوقي إلى توحش وطمع في صاحبه عمران قبل أي شخص آخر حيث أصبح على السيد/صاحب الكلب دفع ثمن حماقته و إيمانه بمبادئ الزمن القديم التي تمت الإشارة لها في جملة "الكلب اللي يلحس إيدك،ما بيعضها" كما جاء على لسان الشخصية.
على صعيد العملية الإخراجية يمكن القول أن، حسن رجب، كان زاهدا وحداثيا في الوقت نفسه. أما الزهد فظهر في ديكور المسرح البسيط والمعتمد على المكون الخشبي في معظم العناصر وهو ما يناسب البيئة الساحلية القديمة على الرغم من أن المسرح كان يمثل بيت النوخذة إلا أنه بدا بسيطا جدا . و من ناحية أخرى جاءت ملابس الممثلين بسيطة إلى الغاية وموحدة تقريبا في اللون "الأسود" طوال فترة العرض وهو ما امتزج مع السينوغرافيا القاتمة والاستخدام المركز للضوء ليصنعوا حالة درامية كئيبة ومركزة وغرائبية في الوقت نفسه تليق ربما بمسألة التحول والمعاناة التي يعيشها السلوقي/ بطل المسرحية و كذلك صاحبه النوخذة الذي يعيش صراع ومنافسة وإخفاق في فهم ومجاراة المعادلات المتغيرة من حوله وفي مقدمتها معادلة كلبه الحبيب. كما ظهرت حداثة التقنية الإخراجية لدى حسن رجب في تكثيف الحالة واختزال مراحل درامية عن طريق تقديم صوتين أحاديين في أداء قديم /حديث يشبه الكورس أو المجموعة التي كانت تقنية شائعة في المسرح القديم، وذلك لتزويد المشاهد بمقاطع سردية أو رسائل رمزية تكمل منظومة العمل ، وعلى الرغم من أن تصديره للعنصر النسائي في المسرحية ، الممثلة العمانية سميرة الوهيبي ، والممثلة الإماراتية الشابة أمل غلوم، لأداء مهمة الكلام المباشر مع الجمهور يحسب له كتعويض عن وجودهن الخجول في دراما العمل كعنصر مستسلم مغلوب على أمره في القصة، تكررت تلك التقنية ربما أكثر من اللازم مما أثر في الإيقاع العام للمسرحية.
No comments:
Post a Comment