Thursday, August 12, 2010




 
حنان شافعي : المازوخية المحببة
حسين سرمك
( كالعادةِ
هاربة من اللامعنى
أجتهد في تجاهل
صوت داخلي
يُلح على ضرورة انسحابي
أفشل
وأعود
لأفشل
ثم أعود .. ) – قصيدة "أن أمحوك من ذاكرتي" – ص 65 " –
وسط هذا الكم الهائل والخانق من النصوص "الشعرية" الذي تطلع علينا به الصحافة الأدبية يوميا حتى صار مغثيا أحيانا ، تمر بك لحظات تشعر أن الشعر الجيد صار عملة نادرة جدا خصوصا في ما يكتبه الشعراء الشباب . لكن بين وقت وآخر ، تهب في سماء الشعر الكامدة نسمة آسرة تنعش ذائقتك .. وتوقظ عيني بصيرتك .. وتشعرك أن الشعر بخير .. وأن هناك من يدرك شروط كتابة قصيدة "حديثة" بعيدا عن اللعب اللفظي المُلغز .. وعن الجنوح القصي لألعاب المخيلة التي جعلت فهم ما يكتبه بعض الشعراء عصيّا على الشعراء أنفسهم .. وطوّحت بالشعر ليصبح فن نخبة ويفقد مادة حياته ونمائه وموضوعه المركزي : الإنسان. ومن هذه النسمات التي هبت بهدوء مفعمة بالشعر والصور المدهشة والأفكار الأخّاذة والبناء المحكم هي مجموعة (على طريقة بروتس) لـ "حنان شافعي".. عملية الخلق الشعري ، وبعيدا عن أطروحات ربّات الإلهام وشياطين عبقر التبسيطية ، هي عملية ذهنية – رغم الفاعلية الهائلة لقوى اللاشعور- مضنية ومخططة بقصدية عالية . تظهر هذه القصدية لدى حنان من العنوان "على طريقة بروتس" .. ومن وقفة الإهداء :
"إليّ :
وحدي
أتمرد
وأجرّب  
وأيضا أدفع الثمن "
.. وبروتس كرمز يعني – من بين ما يعنيه - هذه القدرة الفذّة والعزوم على "تجريب" المؤامرة .. بمفرده .. ثم دفع الثمن بتوقع ومثابرة .. منه وحده .. وإليه وحده .. ومن هذا الفهم الذي لخصته جملة الإهداء تمتد الخيوط المركزية التي تنسج منها حنان مباني نصوصها ومعانيها .. مضامينها وأشكالها.. ممثلة بهذه الأنوية الغامرة .. والروح المتمرد .. والتجريب .. والروح الخلاصية التضحيوية .. أغلب نصوص المجموعة تطرح بلسان الضمير المتكلم "الأنا" .. فالشعر مشروع ذاتي .. يبدأ بالتخلق من أعماق ظلمات اللاشعور الفردي ليتلبس الأغطية الشخصية أو الجمعية على حد سواء .. الجذر يبقى واحدا :
(خلف أسوار الأوبرا المتعجرفة
حيث الأشياء
متحضّرة إلى درجة الموت
يتبادلون أحاديث "مجفّفة"
حول الترجمة
وأنا ...
أتصنّع الاستمتاع بمهارة عالية جدا .. ) – قصيدة "بحثا عن منطق للهروب" ص93-
وحتى عندما يتمظهر الخطاب خلف أستار ضمائر أخرى كضمير الغائب – الغائبة – مثلا فإنه في حقيقته إنسراب للنواة الإنهمامية الشخصية وإسقاط لها على موقع الشخص الثالث .. وهو ، في البنية الدفينة ، بنية الأحزان المستترة ، شخص أول :
( كيف ستمرّ مساءاتها
حين يوطّد رحيلك علاقتها بالدموع ؟
ولماذا لم تعلّمها قبل الرحيل
كيف يكون "النسيان بداية الحرية"
وأول دروسها ؟
أو تلقنها وصايا "التخريب" المقدّسة
كي تبدأ من الصفر بتاريخ يخلو من الهزائم ؟ ) – قصيدة "رسالة إلى كذّاب" ، ص93و94-
هذا الحكم نمسك به بدقة عبر " الصورة الكلية- الجشطلت – gestalt " التي نكونها للنصوص الأربع عشرة .. فخيط الأحزان الأسود نفسه .. وحلقات الخيبة الثقيلة ذاتها.. والموقف التمرّدي الذي ينجز بروح تضحيوية هي في واقعها روح مازوخية تستقبل الألم وتنتعش به وتوظّفه بألق وهمّة واشتغال حقيقي .. روح دائبة تعبر عنها حتى صيغة الفعل المضارعة المتسيّدة ، وتكرار استخدام الفعل "مازال" .. وهي ليست روح سيزيف الإغريقية رغم أنها قد تبدو شكلا كذلك.. إنها روح مازوخية شرقية شعرية .. روح ذلك الإنسان الذي صورته الأسطورة الصينية وقد حكم عليه بقطع الأحجار .. يقطعها وهو يبكي لتتحول دموعه إلى حجارة.. وهكذا .. والقصة الكاملة لهذه المازوخية المحببة تجدها في قصيدة "الموت على طريقة بروتس" والتي تتطلب وقفة خاصة- :
(ثمة اشياء أجرّبها للمرة الأولى
مثلا :
قراءة تعاويذ "يوذا"
البحث في كتب تفسير الأحلام
إلتماس الأعذار للمدخنين
ولأجرب قدرتي
على إخضاع الأشياء من حولي
أحبس دميتي في درج المكتب
أحرم قطتي من سماع الموسيقى
وأقف لساعات
                  على قدم واحدة
.........
.........
..........
الآن فقط
أشعر بحاجتي
إلى آلاف الأقراص المنوّمة
وقدّيس ...
      يعدني بالغفران ..) – قصيدة "الموت على طريقة يروتس" ، ص 32و33-
وحين تراجع عنوان هذه القصيدة فستجد أن حنان قد استقت منه عنوان مجموعتها بعد أن أسقطت مفردة "الموت" .. هنا تتجلى الغائية المحكمة .. فبالموت تنغلق دائرة الوجود الفردي إلى الأبد في حين أن دائرة وجود الشاعرة منفتحة على عطايا عذاب مديد وإحباطات متطاولة .. هنا لا نجد الإستقبال السلبي المذعن لضغوط العذاب وضربات سياطه رغم أنه يبدو كذلك أمام القراءة السريعة .. هنا نلمس "الوعي" العميق بدور هذا العذاب والإشتغال على مضاعفاته لتحويلها إلى "لذّة" .. إلى وظيفة إيجابية يتكفل بها الشعر:
( الأشباح عالقة بمؤخرة رأسي
وأهدابي
تحمل بقايا الأحلام المزعجة
رغم أنف المياه الباردة جدا
الفضاء من حولي بلا نهاية
وأنا نابتة
في وسط الميدان
لا أعرف اتجاهي
فقط .. أتوسل للأرض
أن تبتلعني
كأنني متجردة من ملابسي
.............................
أخشى أن يسألني عن هويتي أحد ..) – قصيدة "لوغارتيمات" ، ص 51و52-
والخيبة المريرة التي تجسدها حنان شافعي في مجموعتها هذه ، هي خيبة شاملة وخانقة تنوء بكلكلها على صدر الوجود الشخصي .. والجمعي .. وتفسد طعم كلّ شيء في هذه الحياة الصدئة الرتيبة .. على المستوى الشخصي تذكرنا معاناة حنان بمقولة "كافكا" : "هل هناك أمل ؟ نعم .. للخالق أمل عظيم .. أما للإنسان .. فلا !!" .. حلقة مفرغة من المرارات القاهرة :
( مازلتُ
أطارد الهروب
ومازال
يستغيث من إلحاحي
أحاول إقناع نفسي
أن الحلم لم ينته بعد
بينما تكشف أشعة الشمس
أكاذيبي
كما اعتادت غرس سهامها
بأجساد الجدران
لتكشف هشاشتها وضعفها ..) –قصيدة "بلا جدوى" ، ص 25-
هذه الخيبة الماحقة يتعاون ويتعاور عليها لاعبون "ساديون" همهم تحقيق اشد درجات العذاب في النفوس الهشة النبيلة .. نبدأ أولا من "الآخر" الحبيب الذي يتخلى عن موضوع حبه بلا رحمة :
(ليته لم يتخلّ عني
تركني ومنحهم فرصة الإنتصار علي :
جدّي
    وبندول الساعة
    وتلك النملة التي تسكن جفني
مازلت أسابق الاعذار في الطرقات
ألملم شظايا الحلم
كي أصنع بلورة نقية
أراه فيها كلما نظرت إليها ..) – قصيدة "بلا جدوى" ، ص 26-
ثم يأتي لاعب آخر مفرط القسوة في الإهمال وسحق الآمال الجنينية الغضة وتزييف وشائج الارتباط الحامية .. تأتي العائلة التي هي حاضن الوجود الأول ورحمه لتعلّم الفتاة على المهانة والتصافق والإنذلال :
( أجيد ..
تثبيت عضلات وجهي
على ابتسامة عريضة
وإقناع الوالد الذي يحبني
بأنني زوجة مناسبة
كلما دعاني على العشاء
سذاجتي التي يبرهنون عليها جميعا
هي ميراث أبي
الذي يؤمن أن الفقراء فقط
يدخلون الجنة ..) – قصيدة "لن أكرر المحاولة" ، ص44-
بعد العائلة تأتي دوائر أوسع تتعاضد معها في تخريب فطرة الذات الإنسانية وتمزق نسيجها الرقيق.. تأتي دائرة الأصدقاء.. والمجتمع بأكمله .. بقيمه وموروثاته القامعة ونواهيه الجائرة :
( أشياء كثيرة لا أجد مبررا لحدوثها
مثلا:
أبي وأمي اللذان أشك في علاقتي بهما
الأنياب التي دائما تنتظر كبوتي
أصدقائي الذين يحقدون علي
ومجيئي إلى الدنيا ) –قصيدة "في الإتجاه المعاكس" ، ص11-
مجتمع يقوم على العلاقات المنافقة والأفعال المرائية .. مجتمع يتكفل بسحق كل ما هو جميل في هذه الحياة ويبشّر بالقبح والفضيلة الزائفة .. ولا يسلم من طوفان هذا القبح والتشويه الساحق أي شيء : العواطف والزهور والطفولة والقيم :
( الآن
عليّ الإستسلام
لإشارة المرور المستبدة
بجانب بائع الجرائد
الذي لا يعبأ بمعاناتي
وأطفال رائحتهم كريهة
يعطّرون الكون
بأوراق فلّ منهزم
وعاهرة
هاشت حقيقتها
فقتلناها
لنقسم أمام العالم :
أننا قدّيسون ..) – قصيدة "أن أمحوك من ذاكرتي" ، ص 65و66-
مجتمع يسعى حثيثا نحو تبليد المشاعر وتدريب أفراده على القسوة المفرطة .. الآلية .. المقيتة التي تجعل الخراب والدمار مشاعا ومبتذلا .. حدّ أنه يوصل الفرد إلى التشكيك في ذاته .. ووجوده وملامح شخصيته :
( عندما
لم يمهل السائق الكلب
ليعبر الطريق
أيقنت أن التنفس
ليس حقا شرعيا لي
فهل تكفي شهادة ميلادي
وتفاصيل جسدي
ومواثيق الأمم المتحدة
كي أثق بنفسي
ولو للحظة واحدة ؟ ) – قصيدة "لوغارتيمات" ، ص 54و55-
ومن هنا نصل مركز دائرة الخراب الشامل .. حيث تصبح لعنة الخراب والموت والدمار .. زيف العواطف وسحق المشاعر النبيلة .. خواء الحياة والإحساس الماحق بعبثيتها ولاجدواها مدخلا نحو الحلّ الأخير الصادم : الجنون الجمعي .. بقلب أطروحة أن "الإنسان حيوان عاقل" إلى قاعدة "الإنسان حيوان معادي" . تعبر حنان عن هذه النتيجة بمشهد توروي رائع ، وبرزح ساخرة سوداء تستثمر الركوب العام إلى "العباسية" حيث المآل السكني الأخير وحيث مشفى الأمراض العقلية ، وحيث السائق الطبيب المشخّص الذي يقودنا نحو مصائرنا الأخيرة : 
( - عبّاسية .. عبّاسية .. عبّاسية ..
ويشير بيده
إلى انفلات صواميل الجمجمة
أركب بإرادتي
ويتبعني آخرون
كلّ الذين أحبهم
سبقوني إليها .. ) – القصيدة نفسها ، ص 52 –
شكرا حنان شافعي .. فقد قرأنا شعرا ..     
  
  

No comments: