ينتظر تطويرات ضمن مشروع قلب الشارقة
سوق العرصة ...بوح مستمر بأسرار التاريخ والجمال
حنان شافعي –الشارقة
لأن القلب موطن الأسرار، فليس أقدر ولا أحق من سوق العرصة على حفظ أسرار الشارقة ،ولأن الشارقة كانت،ولا تزال، واحدة من أهم وأبرز المدن الإماراتية والعربية،فنحن نتوق إلي ما يبوح به سوق العرصة والذي يعد رصدا حقيقيا لحركة تطور مدني شهدتها المنطقة برمتها علي كافة مستويات التفاعل الحضاري والحراك الإنساني . يمتد تاريخ هذا السوق إلى ما يقرب من مائتي عام ،وهو من أقدم الأسواق الشعبية بالإمارات بل هو أقدمها علي الإطلاق مما أهله ليصبح مزارا سياحيا ووجهة لأي باحث في تراث الدولة والدول المحيطة بها أو التي ترتبط معها بعلاقات تاريخية تمتد إلى التجارة والصناعة والسياسة بلا أدني شك .
يقول مدير إدارة التراث والشؤون الثقافية بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ،عبد العزيز المسلم "هذا السوق أقدم تجمع تجاري في دولة الإمارات ،وقد ذكره الرحالة الذين مروا بالمنطقة كما ورد بكل الرسومات والخرائط القديمة التي تناولت الفضاء الجغرافي للشارقة وما حولها من مدن" ويؤكد المسلم أن السوق تتابعت عليه أجيال مختلفة من أصحاب المحال والتجار والزبائن "حتى أصبح وجهة للنخب من هواة جمع التحف والمهتمين بالتاريخ من مصر والعراق والمغرب وإيران،كما يعد مقرا لعقد صفقات تجارية هامة".
وقد سمي السوق بهذا الاسم لأن "العرصة" هي البقعة الفارغة بين الدور حيث كانت البضائع تجلب إليها ويتم تبادلها بنظام المقايضة ،وهو يضم 87 محلا متفاوتة الأحجام والمساحات وله تسعة أبواب تغلق في المساء كنوع من التأمين. يحكي المسلم أن"إدارة التراث تسلمت السوق عام 1990 لتتولى ترميمه وإعداده،بشكل مرحلي، ليصبح مزارا سياحيا معبرا عن تاريخ وتراث المنطقة ، وبالفعل تم افتتاحه عام 1995 باعتباره السوق القديم الذي ينقسم إلى سوق العرصة والسوق المسقوف وسوق الشيخ صقر" .و يضيف مدير التراث بالشارقة أن المرحلة القادمة في تطوير سوق العرصة تأتي ضمن مشروع هيئة الشارقة للتطوير والاستثمار "شروق" التي تتبنى أضخم مشروع تراثي في الخليج العربي والمنطقة وهو "قلب الشارقة" الواقع في المنطقة التراثية.
الأشياء تحكي
ومما ساعد على انتعاش هذه البقعة وتطورها لتشغل مكانا استراتيجيا في حركة البيع والشراء ،موقع مدينة الشارقة ذاته من حيث الملاحة و البضائع القادمة من الهند واليمن وعمان وإيران ،إذ تنوعت ما بين أقمشة وسجاد وحلي وأسلحة ومواد غذائية. المدهش أن تلك هي البضائع الموجودة بالسوق حاليا ولكن في صورتها القديمة أو "التراثية" كما اصطلح عليها ،فمثلا لازال السوق مقصدا لمن يريد شراء سجاد يدوي أصيل بكل أنواعه ومقاساته،وهناك دكاكين أو محلات متخصصة في بيعه دون غيره من البضائع مثل محل الشيخ سعيد محمد ،يمني الأصل، الذي يقول"أعمل في تجارة السجاد اليدوي بسوق العرصة منذ ثلاثين عاما إذ جئت إلى الشارقة شابا صغيرا لأبيع وأشتري ثم استقر بي الحال داخل الدولة وأصبحت لي أسرة يعمل معظم أفرادها في نفس التجارة".
وبخلاف السجاد اليدوي،يعج دكان الشيخ سعيد بعشرات بل مئات القطع الأثرية من خناجر وبنادق قديمة وحلي واردة من اليمن وأفغانستان إضافة إلي أحجار كريمة ولؤلؤ وأصداف تتعدد أشكالها وألوانها ،وبنبرة يملأها الزهو يتابع الشيخ سعيد قائلا"زبائني من أهم الشخصيات الإماراتية والعربية لأنني أهتم باقتناء أجود أنواع السجاد الإيراني الذي يتم استيراده من أصفهان وشيراز وكاشان، كما أهتم أيضا بالبحث عن القطع الأثرية الأخرى كالخناجر التي أجلبها من اليمن وهي تعود إلى شيوخ وقضاة القبائل اليمنية القديمة ومنها ما يعود إلى عام 1818" .وبالإنصات إلى الشيخ سعيد تشعر أنه ممتلئ تماما بعشقه للتحف والبضائع ذات التاريخ حتى أنك بسؤال بسيط عن أية قطعة في المحل تكتشف أن وراءها حكاية طويلة ومثيرة لا تملك إلا أن تتورط فيها مع هذا الراوي المخضرم.
علي الجانب الآخر وقف صلاح "18 عاما" الابن الثاني للشيخ سعيد والذي يعمل مع والده في السوق منذ 5 سنوات ،بدا صلاح غير متحمس لوجهة نظر والده ،بل ربما غير مستمتع بالتجربة على الإطلاق يقول"في بداية عملي هنا أحببت السوق والجو العام له لكني الآن أشعر بالملل وعدم جدوى الاستمرار في هذه التجارة غير المربحة ،فالأمور لم تعد كالماضي بسبب قلة الزبائن وضعف حركة البيع والشراء". و يدعم التاجر الابن وجهة نظره حول السوق معلقا "الحكومة لا تقوم بواجبها تجاه السوق كما ينبغي من حيث الاهتمام بالنظافة والديكور والإضاءة فضلا عن الدعاية الإعلامية التي تلعب دورا كبيرا في التعريف بالمكان مثلما تفعل مع المتاحف وغيرها من الأماكن التراثية بالشارقة".
ويؤكد صلاح الطالب بالمرحلة الثانوية، أن علاقته بتجارة التحف تعد نوعا من الميراث الذي انتقل إليه من الوالد وكذلك من الأخ الأكبر الذي سبق ولعب دوره في السوق إلي أن أصبحت له تجارة مستقلة في الفجيرة حيث تعلم منهما كيف يتعامل مع السائحين الأجانب،فهو يجيد التواصل بالإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية وقليل من الصينية، كما تعلم من والده أسماء وأنواع الأحجار والمشغولات وكيفية التفريق بين الأصلي منها وما تم تقليده . ورغم ذلك كله يؤكد صلاح علي عدم ارتياحه لهذه التجارة خاصة في الأسواق العربية ،يقول" أحلم بفتح فروع لتجارة التحف بأوروبا لأن الغربيين يقدرون الرموز التراثية بصورة مبهرة، فأبي هنا قد يظل محتفظا ببضاعة ما لسنوات ممتدة حتى يجد لها مشتريا قيما أو يضطر لبيعها كي يتخلص منها بغير مكسب أما أنا، فليس لدي استعداد لأضيع عمري في الانتظار".
ملتقى للحضارات
كما سبق وأشرنا ،يعد التنوع سمة أصيلة من سمات سوق العرصة ، فهو بمثابة مسرح تتجسد عليه شخصيات حضارية عديدة ،لكل شخصية منها أدائها وزيها ورائحتها الخاصة، يمكنك مثلا أن تتعرف على شخصية المرأة وحياتها في القبيلة في شتى صورها ومستوياتها ،وعبر قبائل عربية وأعجمية ،من خلال المشغولات والحلي التي تمتلئ بها محال التحف والإكسسوارات المختلفة منها الهندي والأفغاني واليمني والعماني كل في تخصصه . ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل إن هناك تخصصات بعينها في الأحجار الكريمة، أو المنسوجات والحرائر، أو المعادن، الثمين منها والرخيص.
وفي إطار التنوع الثقافي الذي يمثله سوق العرصة هناك محال العملات المعدنية والورقية ،والتي يعود تاريخها إلي عشرات السنين ومنها ما تم إصداره في مناسبات معينة يقول سالم ،أحد عشاق اقتناء العملات،"أحب عملة لدي تلك التي أصدرتها الإمارات عام 1970 بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر مباشرة وقد طبعت عليها صورته في لمحة تذكارية، وكانت الدولة آنذاك لم تنه بعد التعامل النقدي بالروبية الهندية".
ومن المحال الوحيدة في السوق أي غير المتكررة من حيث الثقافة أو البضاعة ،محل بيع الحلويات البحرينية ومحل حلاقة يعود تاريخه إلي سنوات طويلة ،وقد تتابعت عليه أجيال من الحلاقين الباكستانيين ويسمي "صالون العرصة للحلاقة"، أيضا هناك محل لبيع القبعات والنياشين العسكرية ،وهو يضم تشكيلة تاريخية من قبعات مميزة تحمل علامات النازي والجيش الإنجليزي وشارات عسكرية أخرى .
ولازلنا مع المحال المميزة، لكن هذه المرة يختلف المحل كثيرا عن الآخرين. وينبع هذا الاختلاف من بيعه لبضاعة محلية قديمة جدا ألا وهي "التبغ" التقليدي، الذي يتم اقتنائه علي شكله البدائي "في صورة شجرة جافة". ويعد تاريخ محل التبغ هذا من تاريخ سوق العرصة نفسه ، بل من تاريخ الأجيال الكثيرة التي تعاقبت عليه وعلي تطور دولة الإمارات بشكل عام . الغريب أنه محل شديد البساطة، صغير الحجم، تستسلم أشجار التبغ بهدوء في منتصفه مختبئة داخل غطاء من الخوص، وفي أحد أركانه ميزان قديم جدا بجانبه وعاء تراثي لحفظ المياه باردة، وقد أكد التجار المحيطين بمحل التبغ أنه "كان يعمل بصورة منتظمة حتى وقت قريب،إلا أنه أصبح مغلقا لفترات طويلة بسبب مرض صاحبه، ورغم ذلك يأتي إليه زبائنه من كافة الإمارات" .
للمشاهدة فقط
هذا هو الشعار الذي يرفعه محل "عجائب البحار للتحف" المملوك للمواطن عبد الله الشويحي والذي يمتلأ بالعديد من أنواع الأسماك والتحف البحرية والمرجان واللؤلؤ التي يرفض صاحب المحل بيعها للأفراد سواء كانوا سائحين أو مواطنين مكتفيا بعرضها فقط مهما بلغت قيمتها أو قيمة الأرقام التي قد يعرض المشتري دفعها في المقابل. يقول المشرف علي المحل ويدعي عبد الشكور،هندي،"مبدأ عدم بيع المعروضات هو سياسة صاحب المحل الذي لا تأتي التجارة في مقدمة أولوياته فهو يملك محلات أخرى في دبي ،أما محل سوق العرصة فيعتبره مزارا سياحيا وتراثيا فقط ". ويعد البحر جزءا لا يتجزأ من ثقافة الإمارات وأهم منافذها علي العالم حيث أنشطة الملاحة والصيد ورحلات البحث المتواصلة عن اللؤلؤ وغيره من الثروات البحرية التي كانت تشكل تقريبا كل عناصر الحياة في الماضي. وقد استخدم المواطن القديم الحجر البحري في بناء بيته،وهو مستخدم كذلك في التصميم الداخلي للمحل، كما اكتسب رزقه من الصيد وما يجلبه البحر من خيرات يتمثل معظمها في مقتنيات هذا المحل القائم بقلب سوق العرصة .
ويشرح عبد الشكور كيفية التعامل مع الكائنات البحرية المنتشرة في أركان المحل مشيرا إلى انبهار الجميع بها سواء السائحين الأجانب أو زوار السوق بشكل عام و حتى أطفال المدارس الذين يأتون في رحلات لزيارة المحل ومشاهدة المرجان الأحمر والأبيض والقواقع النادرة ونجوم البحر بمختلف أحجامها. ويضيف المشرف قائلا"لدينا أنواع مميزة من أسماك التايجر والصندوق والقرش وأيضا أسماك الكافيار وحصان البحر، وكلها حقيقية تماما إذ تم اصطيادها وجلبها من بيئات بحرية مختلفة ثم تم حفظها بطريقة معينة كي نضمن استمرارها دون أية تأثر أو تلف ".
No comments:
Post a Comment