فلسفة الكشري في الدراما والإعلام (1)
حنان شافعي
منذ التحاقي بالمدينة الجامعية حيث لا شئ سوى النوم والأكل والنميمة، انقطعت علاقتي بالتليفزيون الذي كان مصدر الترفيه الأول في بيتنا. لم أكن أتوقع أني سأتخلص من تعلقي به، ولم أصدق إلا حينما اكتشفت أن حياتي تمضي بصورة طبيعية دون أفلام السهرة واليوم المفتوح وبالطبع مسلسل الظهيرة والثامنة مساءا. لكن فجأة -وبعيدا عن السامعين- صالحتني الدنيا على هذا الاختراع العظيم واستعدت علاقتي بالتليفزيون كأحد توابع زواجي وبقائي في المنزل عاطلة مع سبق الإصرار والترصد ،تدريجيا عاد ارتباطي به حتى وجدتني أتجرأ لكتابة هذه المقدمة تمهيدا لتوريطكم معي في قضية تليفزيونية.
أما فلسلفة الكشري فتتلخص في أن "أبوعلي" قرر فتح محل كشري في الشارع الرئيسي لبلدتنا وقد أكرمه ربنا (بضم الباء) وأصبح للمحل زبائن وبعد أيام فوجئنا ب"أبو كرم" يفتح محلا للكشري على بعد ثلاثة أمتار من محل أبو علي، طمعا في كرم نفس الرب واقتسام نفس الزبائن، ثم بعدها لم يتردد عم مجاهد في فتح محلا جديدا للكشري في ظهر محل أبو كرم وهكذا أصبح لدينا خمس محلات للكشري في مساحة لا تتجاوز بضعة أمتار ،وما لبثت المحروسة حتى غدت معقلا للكشري بل أصبح من معالمها الثقافية الراسخة ..وبالطبع يمكنكم حذف الكشري ليحل محله السنترالات أو التوك توك أو كافة مظاهر الرزق المتداولة بين رجالنا وشبابا وصولا إلى محاولات الهجرة غير الشرعية التي يقلدون فيها بعضهم البعض لمجرد أن أحد أبناء البلدة نجح في تجربته وظهرت عليه النعمة المتمثلة غالبا في بيت من طابقين بالإسمنت المسلح .
وتنطبق هذه الآلية على أبناء الريف والمدينة إذ يتعامل الجميع بمنطق القطيع أو الStereotype ربما بفعل أسلوب أمهاتنا العظيم في التربية –حيث الدفع المستمر لتقليد الآخر باعتباره نموذجا يجب الاحتذاء به أيا كان – وكذلك بحثا عن الشعور بالأمان في ظل وعي جمعي متشابه، وفي النهاية تخرج لنا شخصيات غير معتادة على الذاتية في التفكير أو محاولة الاشتغال على النفس بما يناسبها من حالات و محاولات .
ووصولا إلى سيرة الإبداع أعتقد أن فلسفة الكشري تناسبها بقوة هذه الأيام خاصة ما يتعلق بحالة الدراما التليفزيونية /الرمضانية على وجه التحديد وآلية صناعة الإعلام العربي بشكل عام،ولما لا والدراما هي المجتمع والمجتمع هو الدراما في تركيبة كيميائية عجيبة لا أعرف من فيهما أوجد الثاني .
أعتقد أن الحلقة الأساسية في سلسلة الصناعة الدرامية هي "الإنتاج" فقطاع المنتجين يقلدون التجربة الناجحة –بمنطق العصفور المستسلم لراحة اليد وليس العصافير المنطلقين على الشجرة- فإذا نجحت يسرا –نديها يسرا، وإذا نجح جمال سليمان نديها جمال سليمان ،وإذا فلح إقحام الأغاني الشعبية -المثيرة للغثيان أحيانا- فلا بأس من حفنة إقحامات لأغاني شعبية ، فضلا عن اتجاه مذيعة "ناجحة" إلى التمثيل ، أو ممثل ناجح- ببركة دعاء الوالدين- يتجه إلى تقديم البرامج بفضل إتاحة الفرص المغرية والتسويق الأعمى، كل ذلك يحدث بلا أدنى تريث أو تقييم لوعي هذا الإنسان الذي نمنحه فضاء لا محدودا لبث أفكاره ولغته بل ومكنون شخصيته بكل ما فيها، ومهما كان ملتزما بسياسة إعلامية أو فنية أو آليات مهنية بعينها فإن صبغة روحه وثقافته تنعكسان ولا شك على تواصله مع الجمهور الذي يعتاد تدريجيا على الوجوه ذاتها هنا وهناك وقد أصبح لقب "فنانة" و "إعلامي" أو"إعلامية" متوفرا على شاشاتنا بقوة مثلما تتوفر ألقاب "عانس" و"مطلقة" و "عاطل" في كل أسرة عربية ولكن دونما تمييز ضده من المجتمع أو شعور بالخجل.
ولأن رؤوس الأموال هي التي تتحكم في عملية الصناعة فإن القضية لاشك في غاية الخطورة، وفي اعتقادي لم تعد مآسيها خافية على أحد بل إنها تتجلى سنويا في سوق الدراما الرمضاني ،وفي هذا الرمضان 2010 عرضت الشاشات العربية ما يزيد على الستين مسلسل ما بين سخيف وتافه ومباشر ومسلوق ومستهلك ومبتسر و"جيد" بخلاف الكثير من الأعمال التي لو أخذت حقها من الدراسة والاشتغال بإتقان لحققت معادلة المستويين الفني والتجاري في آن واحد ولكن هيهات، كيف لنص /سيناريو أن يصبح ناضجا في سويعات قليلة تفصل ما بين كتابته واختماره وتنفيذه؟؟ بل كيف يصبح محترما وقد فقد حساسيته للإبداع حينما كتب خصيصا للممثل الفلاني/نجم الموسم طبقا لقياسات طوله وعرضه وشكل حواجبه أومقاس قدمه؟؟!!!
ثم هل لممثل يخرج من موقع تصوير إلى آخر لاهثا وراء الزخم الرمضاني، أن يجد وقتا للتفكير والتأمل في قيمة العمل الذي يؤديه أو حتى مجرد قراءة النص بهدوء والتدقيق في الاختيار؟! بالطبع لا، ولماذا يرهق نفسه وقد غدت الأمور في أيدي تجار يراهنون على الورقة الرابحة بغض النظر عما إذا كانت ورقة بردي أو ورقة كلينكس.
المدهش في المسألة أن فلسفة الكشري قد تمضي مع الحياة باعتبار أن الشعب جوعان وسيأكل كل ما تأتي به الصباحات اليتيمة ، أما في صناعة الدراما والإعلام فالتقليد والاستسهال يفرزان مفاهيم فنية وإنتاجية وتسويقية شديدة الخطورة مثل ترسيخ سطوة المنتجين/أصحاب الأموال على توجيه الذوق العام (وبالتأكيد هم غير مؤهلين لذلك) أوالممثلين الذين باتوا يلهثون خلف مواسم العرض وفي مقدمتها شهر رمضان، وفي المقابل ازدراء معلن لقيم الجودة والإتقان والشعور بمسؤولية ثقافية باعتبارهم قيم خائبة مضيعة للوقت وكذلك لا تضمن الظهور في رمضان القادم.
No comments:
Post a Comment