الناقد دكتور أحمد سخسوخ "دراما التليفزيون خطر على الثقافة العامة"
حوار: حنان شافعي
بين النشأة على خط النار بإحدى مدن القناة المصرية، بورسعيد، وبين حب المسرح ودراسته ثم صدام أكاديمي مع أحد أهم نقاد ومنظري المسرح، رشاد رشدي، في عنفوان الشباب، اتخذ على إثره قرارا بالسفر إلى فيينا حيث الثقافة والفن والنور، ومع الاحتكاك والتتلمذ على يد كبار الفنانين والنقاد بأوروبا.. تشكلت ثقافة ورؤى الناقد والمؤلف المسرحي المصري دكتور أحمد سخسوخ، أستاذ الدراما والعميد السابق للمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، المعهد الذي درس وتخرج فيه عام 1975 بتقدير جيدا مع مرتبة الشرف وانتظر التعيين كمعيد إلا أن رشاد رشدي، عميد المعهد آنذاك رفض ذلك بسبب انتماءات سياسية مما دفع سخسوخ إلى تدبير نفقة السفر إلى فيينا لدراسة المسرح والانطلاق من أفق أكثر رحابة.
ولعل هذا هو القرار الأهم في مساره الفني والأكاديمي إذ عمل سخسوخ على تثقيف نفسه على كل المستويات الفنية بدءا بدارسة الإخراج المسرحي بمعهد "ماكس راينهاردت" التابع لأكاديمية الفنون بفيينا عام 1982، ثم دراسة التمثيل ببرلين على يد المخرج العالمي "جون كوستوبوليس" الذي تتلمذ على يده معظم نجوم هوليوود عام 1986، وأخيرا حصل على الدكتوراه في فلسفة الدراما من جامعة فيينا بعد أن تتلمذ على يد الناقد العالمي "مارتن إسلن عام 1987، ليحصل عام 1989 على جائزة الدولة التشجيعية في النقد المسرحي وكذلك حصل على نوط الامتياز من دولة النمسا عن مجمل ترجماته للمسرح النمساوي عام 2000 كما حصل مؤخرا على جائزة الدولة للتفوق في الآداب، وهو يشغل حاليا منصب رئيس تحرير مجلة المسرح الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وأيضا رئيس لجنة الندوات الدولية بمهرجان المسرح التجريبي. "الصدى" التقته خلال ورشة الكتابة المسرحية التي نظمتها دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة و كان يحاضر فيها مجموعة من الكتاب الشباب..
*تتحدث عن علاقتك بالمسرح منذ الصغر، فكيف أثرت نشأتك في ذلك من حيث الجغرافيا والمناخ العام في ذلك الوقت؟
- نشأت في مدينة بورسعيد التي تتميز بتركيبة سكانية وثقافية ثرية بدأت تتشكل مع مشروع حفر قناة السويس حين جاءت شعوب كثيرة لتشترك في عملية الحفر سواء أفارقة أو يونانيين أو فرنسيين أو إنجليز وقد عاش كل منهم بفنونه وطقوسه الثقافية مما صنع مزيجا حضاريا قويا ومتنوعا في الوقت نفسه، وكنت منذ صغري واعيا بهذا المناخ ومستغرقا فيه بصورة كبيرة حيث أواظب على الذهاب إلى الحي الإفرنجي لمشاهدة أكشاك الموسيقى والعروض المسرحية الأجنبية وفي الوقت نفسه أتابع الموسيقى الشعبية في الحي العربي،ثم ترددت بعد ذلك على نوادي المسرح وفرق العمال وقصر الثقافة الذي كان يستضيف كبار فناني ومثقفي القاهرة الذين يتحمسون إلى زيارة مدينة القناة المزدهرة ، هذا بالإضافة إلى أن أبناء بورسعيد يمارسون الفن بطبيعتهم وفي حياتهم اليومية بداية من أغاني الصيد وحتى أغاني المقاومة .
*وكيف التحقت بقسم الدراما بمعهد الفنون المسرحية بالقاهرة؟
- في البداية تقدمت إلى الاختبار بقسم التمثيل وكانت لجنة التقييم تضم كلا من الفنانين كرم مطاوع وسعد أردش وعبد الرحيم الزرقاني وقد نجحت في الاختبار إلا أن البعض نصحني بالانضمام إلى قسم الدراما لأنه يحتاج إلى كوادر بعكس قسم التمثيل الذي يمتلأ بالكثيرين وبالفعل قمت بالانضمام إلى قسم الدراما وقضيت فيه فترة دراسة ممتعة، تخرجت منها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
*إذا كيف جاءت فكرة السفر إلى الدراسة في الخارج ولماذا فيينا على وجه الخصوص؟
- حلم السفر يراود أبناء بورسعيد منذ صغرهم بسبب الانفتاح على الخارج والرغبة في اكتشاف ما هو على الضفة الأخرى، وبالنسبة لي كان السفر يراودني لكني لم أصر عليه بقوة إلا نتيجة للموقف الذي اتخذه ضدي الناقد الدكتور رشاد رشدي أثناء عمادته للمعهد ورغم حصولي علي مرتبة الشرف رفض تعيني بحجة أن الفنان لا ينبغي أن يتورط في أي نشاط سياسي حيث قبض على آنذاك في مظاهرة ببورسعيد ، وبالفعل اتخذت قرار السفر إلى الخارج ودبرت ثمن التذكرة والفيزا واتجهت إلى فيينا بناءا على نصيحة صديق كان يدرس هناك.
*وكيف كان اكتشافك للعالم في فيينا ،أو بمعنى أدق ما هي أولى الصدمات الحضارية لك في مدينة الفلسفة والفنون؟
- بالطبع كان الفرق شاسعا على كل المستويات، فالأفكار هناك تعتمد على الممارسة وليس التنظير فقط وأولها فكرة الديمقراطية..(يصمت ثم يكمل متأملا) أول صدمة حضارية لي في النمسا عندما ذهبت إلى المكتب المسئول عن إصدار الإقامة وعاملني الضابط المسئول معاملة راقية وصلت إلى أنه أحضر لي قهوة حتى تنتهي الإجراءات الخاصة بي وهو ما لم أعرفه من قبل في بلادنا ، ثم الصدمة الثانية كانت حينما رأيت الرئيس النمساوي آنذاك بنفسه يمشي في حديقة عامة بوسط فيينا تسمى "حديقة الشعب" أبهرني خروجه بدون حراسة وأفراد أمن وتشريفات كالتي نعتاد عليها ، وتوالت بعد ذلك رؤيتي لكثير من المسؤلين والسياسيين النمساويين في الشوارع ومراكز التسوق كأفراد عاديين. أما على المستوى الفني فقد انغمست في الحياة الثقافية والفنية بفيينا خلال 10 سنوات ما بين المسارح والأوبرا والورش الفنية وغيرها من الأنشطة التي كانت لا تهدأ طوال أشهر العام.
*إذن هل انعكس ما رأيته وتعلمته في فيينا على أدائك الأكاديمي كأستاذ للدراما ثم عميد لمعهد الفنون خصوصا وأن الحياة الأكاديمية في مصر تعاني الكثير؟
- بكل أسف كثير من الأكاديميين المصريين والعرب بصفة عامة منعزلين عن الحياة الثقافية وغير مطلعين أو مؤثرين فيها ولا حتى في الطلبة وهو من الظواهر الخطيرة جدا إذ لم يكن الوضع كذلك في الماضي على أيام الأساتذة الذين تربينا على أيديهم، أتمنى أن يسأل الطلبة الذين درست لهم أو كانوا بالمعهد فترة عمادتي كيف كنت حريصا على صبغ العملية التعليمية بأكبر قدر من المرونة عن طريق الاستعانة بلوائح وقوانين أوروبية تعتمد التعليم الحر والتفاعل بين الطلاب والأساتذة عن طريق العمل المتواصل وتطبيق ما يدرسونه، لكن كل ذلك تم تجميده بعد انتهاء فترة عمادتي وعاد كل شئ كما كان عليه.
*بعيدا عن الحياة الأكاديمية، كيف ترى واقع المسرح المصري والعربي من وجهة نظر ناقد؟
- يرتبط ازدهار المسرح بازدهار حركة المجتمع فهو بوتقة تنصهر فيها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وليس بالضرورة أن يكون المجتمع غنيا لكي ينهض فيه المسرح ولكن الضرورة أن يتوفر فيه الحراك والوعي بقضاياه وطموحاته وتاريخ المسرح المصري يشهد على ذلك إذ تطور قبل وبعد ثورة 1919 وكان فاعل ومؤثر في حركة المجتمع المصري مثل مسرح "جورج أبيض" ومسرح "علي الكسار" و "نجيب الريحاني"، الذين كان لهم دور في الحراك السياسي والاجتماعي ولدينا مثال أيضا في تجربة "سيد درويش" الذي لم يسطع نجمه إلا مع الثورة، ورغم خفوت هذا الحراك ظلت بقاياه حتى قبل 1952 واندمج في المشروع القومي وبالتوازي كانت هناك تجارب مسرحية قوية في مختلف أنحاء الوطن العربي حتى وقوع النكسة عام 1967 انقسم المسرح المصري و العربي إلى اتجاهين أحدهما مع السلطة ويتمثل في مسرح الدولة الذي يعمل على تبرير الهزيمة ويقدم موضوعات باهتة بعيدة عن الفنية، وفي المقابل اتجه ما يسمى بمسرح القطاع الخاص إلى دغدغة مشاعر الناس وتقديم موضوعات عديمة القيمة واستعراضات هزلية للترفيه عن الناس وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المادية فقط وبالتالي لم يكن يتردد عليه سوى أصحاب الأموال من الأغنياء الجدد الذي ظهروا نتيجة سياسة الانفتاح التي سادت فترة السبعينات ومعهم ظهرت أنماط وأذواق أضرت بالذوق العام للمسرح والأغنية وتمثل ذلك في بعض أعمال فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي وأمين الهنيدي ثم ظهر في الثمانينات محمد نجم وسعيد صالح.
*إذا الظروف السياسية التي شهدتها المنطقة العربية خلال النصف قرن الأخير لازالت تلقي بظلالها على واقع المسرح، فهل تعتقد أنه سينهض مرة أخرى؟
- في الواقع الأمر يتفاقم ويتجه من سئ إلى أسوأ خصوصا بعد اختفاء الطبقة الوسطى التي كانت تمثل بنية الأخلاق والذوق العام المتوسط للمجتمع واختفائها سمح لأذواق أخرى أن تسود منها ما هو ردئ أو متزمت وكلاهما يشكل خطورة على مستقبل المسرح والفنون بوجه عام، والسؤال المحير حقا هو عدم قدرة جهود دعم الحراك المسرحي والشباب في خلق تيار قوي يثبت ذاته فمثلا لدينا دعم سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي للحركة المسرحية العربية من خلال إنشاء الهيئة العربية للمسرح وتوفير الإمكانات المادية لها ومع ذلك نجدها خاملة ولم تحدث حتى الآن الأثر المنتظر منها، ولا أعرف أين يكمن التقصير هل هو من قبل الإدارة أم المسرحيين العرب أنفسهم، أعتقد أنه على كل منا بذل أقصى جهده لمقاومة هذا التدهور والأفكار الظلامية وأنا أول من يفعل ذلك رفضت تماما أن أهرب إلى الخارج لأني أرى في ذلك سلبية شديدة وأيضا لن أهرب داخل نفسي وأنسحب من الحياة الثقافية وهذا ما يجب علينا فعله، أنا أقاوم حتى لا تنتقل إلى أمراض المجتمع سواء عن طريق الكتابة والنقد والتدريس وكذلك إتاحة فرص حقيقة للشباب كي يجربوا ويثبتوا أنفسهم سواء من خلال مسابقات-كمسابقة أفضل نص مسرحي التي أطلقتها مجلة المسرح التي أترأس تحريرها بالقاهرة- وأيضا اتفقت مع جهات رسمية لإنتاجها وعرضها على خشبة المسرح.
*نستنتج من ذلك أنك لست متشائما بخصوص مستقبل المسرح العربي؟
- لست متشائما ولن أسمح لهذا الشعور أن يتسرب إلى لأني أثق بحركة التاريخ وقدرتها على إفراز كوادر جديدة تنهض بالمسرح وبالحركة الفنية عموما مهما وصلت الظروف المحيطة إلى أقصى درجات السوء، الحكومات المستبدة يمكنها أن توقف حركة التاريخ أو تبطئها لبعض الوقت لكنها لا تستطيع أن توقفها عن النمو أو التطور ودائما ما تفرز الأزمات وعيا مغايرا لدى الناس وتجعلهم أقدر على المحافظة على حقوقهم هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أراهن على الجمهور الذي ينبغي أن يعمل الفنان من أجله والذي يستطيع أن يقيم ما يقدم له فحين تقدم له أعمالا تخاطب وجدانه وهمومه لا ينفصل عنك أبدا والآن نجد المسارح فارغة من الجمهور لأن الأعمال المسرحية لا تضعه هدفها الأول. ومن خلال تجربتي في عضوية كثير من لجان التحكيم مسابقات في مصر والعالم العربي أستطيع أن أبشر بجيل مسرحي واعد لكنه يحتاج إلى آلية اكتشاف و دعم منتظمة حتى يتمكنوا من تطوير أنفسهم بدلا من الاختيارات والتجارب العشوائية.
باعتبارك من المتحمسين لمهرجان القاهرة التجريبي فما هو تقييمك له بصراحة، وتقييمك لظاهرة المهرجانات المسرحية العربية بصفة عامة؟
-المهرجانات من الظواهر الفنية الصحية إذا تم تنظيمها واستغلالها بصورة صحيحة وأنا أواظب على حضور مهرجانات في فيينا وبرلين وأجد فيها دائما أنشطة متجددة، بعكس المهرجانات العربية التي تتلخص في علاقات ومجاملات كما أن الفرق تركز فقط على إنتاج عروض للمهرجانات بهدف الحصول على جائزة وهذه ظاهرة في غاية الخطورة تهمل أهم عناصر العملية المسرحية وهو الجمهور، أما مهرجان المسرح التجريبي فأعتبره من الأنشطة الحقيقية التي تشهدها المنطقة العربية رغم وجود سلبيات لا يمكن إنكارها لكنهم في النهاية 10 أيام من الحوار الحضاري بين فرق وثقافات وفنون من الشرق والغرب والمسرح لا ينضج إلا بالاحتكاك والتجريب والتعلم، إضافة إلى ما يقدمه المهرجان من مناقشات فنية وندوات وأعمال مترجمة واستضافة لأهم نقاد المسرح في العالم.
*اتجه معظم كتاب المسرح المصريين إلى كتابة الدراما التليفزيونية، فأين أنت من ذلك؟وما هو رأيك فيما يقدم من مسلسلات في الآونة الأخيرة؟
-هناك كثير من العروض والإغراءات لكتابة المسلسلات ولكني لست مغرما بها، أشعر أن الدراما التليفزيونية يمكن أن يكتبها أي أحد في لا تحتاج إلى مؤلف بارع أو متخصص فهي ليست مجالا لخروج طاقة إبداعية حقيقية ، وأنا بشكل كبير مؤمن بمقولة الكاتب الكبير سعد الله ونوس أن "الذين هربوا إلى المسلسلات هم ضعاف الكتاب الذين لم يحققوا مجدا في الدراما المسرحية"، ومع ذلك لا ننكر أن هناك نجوم كبار في كتابة الدراما التليفزيونية أمثال أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد.
أما عن رأيي في المسلسلات التي عرضت خلال السنوات الأخيرة فأؤكد أنها شديدة الخطورة على الثقافة العامة لأنها أعمال ضعيفة القيمة وتحمل كما هائلا من الاستسهال وتضييع الوقت وتلك هي "خطورة الدراما التليفزيونية" لأن التليفزيون أصبح أسهل وأرخص وسائل الاتصال وفي ظل الثقافة الشعبية المحدودة وسيطرة سوق الإعلانات لابد من وقفة حقيقية وحازمة من قبل وزارتي الإعلام والثقافة باعتبارهما المعنيتين بتشكيل وعي ووجدان المجتمع.
No comments:
Post a Comment